لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من رواية “هنيدة”: نَسيْمٌ مِن وادي قُبَا …….. بقلم: جمال محمد إبراهيم
نشر في حريات يوم 31 - 08 - 2012


بقلم: جمال محمد إبراهيم ……..
كانَ للخليفةِ الأمويّ، نهاراتهُ المشوْبة بالهرَجِ وبالضوْضاءِ، تُحدِثها الجَلبَةُ في أنحاءِ قصرِ الخلافةِ، لكأنّ القصرَ محضُ حانٍ يجتمع فيه أهلُ المَسرّة والّلهو والموبقات بشتّىَ أنواعِها، لا محفل لسماعِ الشّكاوى، وللفصلِ في ظلامات أهلِ السّوقِ، فلا تكاد تجد – والناسُ على إسلام – مِن مُستجيبٍ لآذان الظهر أو العصر أو المغرب . ما أنْ يخرج أئمةُ الناس إلى خلواتهم الدينية ، حتى ينقلب الحال إلى حالٍ آخر، فيكون كلّ المسعى سُدىً..
- يا أبا “هُنيدة” ، أصلحَك الله، أما تأتنا ب”هُنيدة”، تُسعدنا بغنائها في هذا القصر المُجدِب من الحُسن ، الفقير إلى الجمال . .؟
يحفظ الخليفةُ مكانةً خاصة للمقرّبين مِن حولهِ ، أصحابِ الحظوةِ ومن يشاركونه لهوَ أيامهِ، وصباباتهِ ومجونهِ وخروقاتهِ . أكثر مَا يتجنب الخليفة، أن تنال أحاديث شيخ المسجد الجامع، اهتماماً من قبل جُلساء محفله. لشيخ المسجد الجامع مكانة يحترمها العوام، ويتوسّلون إليه لفتيّاه في أمور الدّين وأمور الدنيا .
- الصّلاة تُقام في أوقاتها، ولا نحتاج لمَن يذكّرنا .. ماذا يكون حالنا بين الصلاةِ والصلاة ..؟
يتنحنح الخليفةُ في مجلسِهِ، ولا يقول شيئا. يواصل صاحبُ “هُنيدة” حديثه:
- وأيمُ الله ما جَلسنا يوماً إلى ملاهينا، إلّا بعد أن سلّمنا يميناً وشمالاً، وانتهينا من صلواتنا بركعاتها المفروضة، وسجداتها النوافل. ما استقبل الواحدُ منا لهوَهُ، إلّا بعد ما اسْتدبر واجبه الديني، بُعيد صلاة العشاء ، فما الذي جذب انتباه الشيخ ليزعج جلساتنا بمواعظهِ المثقوبة . . أمْ يريدنا أنْ نستدبرهُ بعد قيامِ الليل ، وَما بين “دمشق” و “أم درمان” بونٌ يُقلق ، أم ترانا كنّا بحاجةٍ لجنرالٍ مُلتحٍ يقوم خليفة فينا ، هذا الزمان ؟
قالَ الرّاويّ: ما كتبَ الجاحظُ في “كتاب القيان” ، إلّا ما رأى وَسمع :
( ثمّ لمْ يزلْ للملوكِ والأشرافِ إمَاءٌ يختلفنَ في الحوائجِ ويدخُلن في الدواوين ونساءٌ يجْلسْنَ للناسِ مثل خالصة جارية الخيزَران وعتْبة جارية ريْطة ابنة أبي العباس وسُكَّر وتركيَّة جاريتَي أمِّ جعفرٍ ودقاق جارية العبَّاسةِ وظلوْم وقسطنطينة جاريتي أمّ حبيبٍ وامرأة هارون بن جعبويه وحمْدونة أمّة نصر بن السِّنديِّ بن شاهك، ثمّ كنّ يبرزْن للناسِ أحسنَ ما كُنَّ وأشبه ما يتزيَّنَّ بهِ، فما أنكر ذلك منكرٌ ولا عابهُ عائبٌ..)
جاءتْ قيْنةٌ مِن قيَان القصرِ، كأنّها الحيَاة مُقبلةٌ في أبهَى مباذلِها، أو هيَ الحيَّة مُقبلة تتثنّى في خيوطِ الحلم ، قُبيل أن ينقُضَ الفجرُ غزله، فتكون الّلذةُ في حميّاها. ليسَ بين جسدِها والنور من حجابٍ ولا ستار. بيدها ربابة بأوتارٍ مشدودة، وعلى الخدّين تفاحٌ، والمُفترّ من ثغرها، شفة سُفلى هي حبة عنب مَفلوقة، تُماثل شَفَةِ الحسناءِ الهوليوديّة “انجلينا جولي”، من حِسان القرن الحادي والعشرين، الباذخة ببريقِ الشّهوة والشّبقِ والشّوقِ المُستعِر. اللؤلؤُ أسنانها . .
قالَ الأخطلُ – ولعلّه هوَ خِدن الرّاوي- مُحدّثاً نفسهُ الأمّارة بالقوافي :
- آهِ من حرْفِ الشّين، ووشوَشاته المُهلكة !
نظرَ شاعرُ البلاطِ كرّتين، وما انحسَرَ بصرُه، وقد أخذته تهويماتُه، مذهباً بعيداً إلى بحور الخليل، يتخيّر ما يُناسب اعتمال جوانحهِ بعشقهِ السِّرّي . تنهّد وَهتَف :
- ألأنّني استدنَيتُ مِن تفاحَهَا، مَشبوْبا . . . ؟
صاحَ الخليفةُ والكأسُ مَلأَى بيمينهِ :
- لكنّه مِن ثِمار بساتيني، فمَا أحقّني به . .
إرتبكَ شاعرُ البلاطِ، وأخذتهُ الحيرةُ مأخذاً حرجاً، وضاعَ منه عجز البيت، ولحظهُ يُسارق عجيزةَ الصبيّة ، والقافية تستدبر نفسها هناك، ولا تستقبل صَدْرَ البيتِ، ولا تُلامِسَ نَهْدَيّ حَسنائهِ. تقف القافيةُ وتستدير حيرتها على الرّدف، إذاً. أمسكَ الشّاعرُ بعجز البيت وأنشد:
- خَمْراً مِنْ الخَدّينِ تَحْتَ خِمَارِها مَسْكُوْبا..
لَم يَعتب الخليفةُ على الأخطل في غزله الصّريح بالفتاة المُسلمة ، يُسقَى خَمْراً من خدّيها ومِن تحتِ خمارِها ، ولمْ يقل إنّ ذلك مِن “المسكوت عَنهُ”، لا يفصح بهِ جهراً في مجالس الخلفاء. كتبَ الرّاوي مُلاحظةً في دفتره:
وَلكن في مُدنِ التُّرابِ، خلافةٌ زائلةٌ، وَجنرالٌ ملتحٍ… وَعسَسٌ قُساة.. فكيفَ يَستنسخ العهدُ الأمَويُّ نفسهُ مِن جديد، و”المسكوت عنه” فرّخَ زيفاً متعاظماً في الأنحاءِ . . ؟
في “أم درمان”، مدينةِ التُّرابِ القديمةِ، تَجَالَسَ أصدقاءٌ يودّعون دبلوماسيّاً ، كلّفوه بالعملِ في سفارةِ البلاد في العاصمة الايطالية روما. تسامروا وتخامروا، وكان العهدُ في أيسرِ أحواله. خرَجَ المُودَّعُ في سَكرةٍ بائنة وتورّط والّليلُ من حوله بهيم، في حادثٍ أعطبَ فيهِ سيارتَه وسيارةَ أرملةٍ، رابضةً في الجوار. كانَ لا بُدّ للشرطةِ أنْ تحضر، وَللمخمورِ أنْ يُستفهَم في المَخفرِ. عرفوا أنّه من جهازِ الدّبلوماسيّة الرسميّة، والقومُ في ديوانِ الخليفةِ يبحثونَ عَن ضحيةٍ تكون عبرة لمن يعتبر بقوانين الشريعةِ، وضبطَ النظام العام بلوائحٍ استمدوها، في زعمهم، مِن كتابِ الله وسُنّةِّ الرّسول الكريم. في تلك الليلة، لم يُكرِموا الدبلوماسيّ الشّاب. نظرَ وزيرُ الخارجية إلى أبعد من جدران مكتبه، إلى جنرال مُلتحٍ يقيم في قصرِ الخلافة، يَرمُقهُ منتظراً. قدّمَ الوزير تقريرهُ إليهِ على طبقٍ جاهز، فاستشاط سلطانُ الأرض فرحاً وغضبا، وجلدوا الشّابَّ ، بسياطِ الشريعةِ الإسلامية، إرضاءاً لجنرالٍ مخبول، وألغتْ الوزارةُ قرارها، وأرسلوا الدبلوماسي الشاب إلى بيته مَغموماً ، لا إلى روما سفيرا. .
فرَحُ الخليفةِ كانَ كبيراً. كأنّه مَا كانَ قبلَ لُحيظاتٍ يَعُبّ الخمرَ عَبّا . تَعَبُ المِعدَةِ بالتقرّحِ، دَفعَ الأطبّاءُ لنُصحهِ بالكفِّ عن الاختمار. تابَ عنها ورأى أن يتوب الناس أجمعين معه، فاستدعى العترة الأولى، وتسربَل مثلَ نبيٍّ أخرجهُ الرّبُ إلى الناسِ، يصيح : الخمْرُ رجسٌ مِن عمل الشيطان. .
هاهيَ خلافةُ بني أميّة تَستنسِخَ نفسَها في مدينةِ “أم درمان”، تُرابُها مُتذهّبٌ، كأنّه مِن كُثبانِ الكوفةِ القديمة. سلطانُ الحاضرةِ الترابية، خليفةٌ إسمُهُ النّميري ، لا الحجاج بن يوسف الثقفي. .
وزيرالجنرال المتطلّع، صارَ وزيراً كبيرا.
ذلكَ زمانٌ .. ويا لهُ مِن زمانٍ مُزيفٍ كاذب . .
كتبَ الشّاعرُ في يوميّاته السريّة، وكأنّهُ تعمّد أنْ لا يرصد الرّاوي شيئاً ممّا كتب :
( رأيتُها تتثنّى لِي في سُمْرتها البهيّة ، فرع أبنوسةٍ استوائية. ليسَ وحدهُ الخليفة الأمويّ الذي صادته سِهامُها الباترة، فانصرَع. لفيفٌ من روّاد المجلس، طابَ لهُم حُسنها، والقدُّ الممشوق، فهيَ سنديانة ليّنة القوام طريّة، لثغتها تأسِر. نظرتُ إليها، والرّبابة تحت نهدِها الأيسر، تكاد حلمتُهُ أنْ تنفر مِن حراك الوترين، ومِن عزفِ أصابعها عليهما ، شدّاً وجذبا ونقراً شجيّا. تملّيت جسدَهَا يتثنّى، فكأنّهُ استحالَ قوساً بين الأوتار، يُعازف إصبعيها وتراً فوترا، فيذوب الّلحن بينَ تثنّيهَا وانتصابِ ثديَيْها وحلمتيْها النافرتين، تئنّان مع الربابةِ، أنيناً أخذ بلبِّ الخليفةِ وبألبابِ صحبِه، والنبيذُ تدور أفاعيلهُ برؤوسِهم، والّلحنُ آسِرٌ والصّوتُ شجيّ . . )
- صَهْ يا هذا . . ألا تسمعَ صوتَ الجَسدِ يُغنِّي في تثنّيهِ . . ؟
ضَحِكَ الخليفةُ، إذ هوَ الضّاحكُ الوحيدُ دَوماً، وصاحبُ الصوتِ المجلجل في ديوانِ الخلافة، وحده لا يُبارى. دارتْ كؤوسُ النبيذِ واسترسلتْ الصبيّة في الغناءِ، فصَار للرّواةِ ما يحكونه، وللكاتبين ما يسجلّونه لتأريخ الشِّعر والغناءِ وأصواتِ الّلحنِ، تخرُجَ من معازف شتّى، رخيمها والرّفيع منها. ثمّة كاتبون سيكتبون مجلدات عديدةٍ فيما بعد، عن فنِّ الغناء وفنِّ الرقص وفنِّ اللحون. هل للخليفة أن ينثني عن مَسار تاريخهِ الأمويّ ، وهلْ لهُ أن يعصي قدرهِ المحتوم ؟
في المدينةِ التُرابية، يَحكي خِدن الرّاوي عن “هُنيدة”. جاء صحفيّون وكتابٌ، يتبعهم غاوون كثرٌ. عربٌ من مصر ومن الشّام. نجومٌ وأقمار وشموس. انتظم عقد المدعوين في دفءِ الحديقة. كانَ الأخطلُ حاضراً فيمَا حكتْ رواياتُ التاريخ.
جاءتْ “هُنيدة”، مزهوّة بعشرينها ، طيّبة نديّة غضّة، وغزالةٌ هيفاء من حدائقِ الحياةِ، طويلة سمراء. تلمع سُمرتها إلى حدّ الإشراق. في السماءِ نجومٌ وَلئآليءُ، كمَا في الحديقة، والغِناءُ عطورٌ تفوح مع الياسمين والنرجس .
“هُنيدة” في ثيابٍ مَوّهتْ جسَدَها الجميل، أمسكتْ بربابةٍ أوتارها حميمة الصوت، بكّاءة. توسّد صَوْتها ندَى الأزاهير، تُرسل عبقها في غِناءٍ، استملكَ آذانا، وفي تثنٍ خطفَ بصائرَ متولّهين، تحلّقوا الوردَ وتلبّسوا الياسَمينَ وتعطّروا بصوتِها فكانَ السِّحرُ حضورا :
يَا نَسيْماً هبّ مِِنْ وادي قُبَا
خَبّريني كيْفَ حال الغُربَا
كمْ سألت الدّهرَ أنْ يجمَعُنا
مِثلما كُنّا عليهِ فأبَى
راقَ ل”هُنيدة” استحسانُ الساهرين لتثنّيها، واستعذابهم لصوتِها ولمعاني غنائها ، فطفقوا يردّدون معها في ذَوْبهم، جميلَ غنائها، واستكثروها وأسَرَتهم لديها .
طافتْ بغنائها البديع نواحٍ، لا يجيد الوصول إليها إلّا كلُّ مُتمرّسٍ صدّاح.
بيّنا الخليفةُ الأمَوي يهتزّ طرَبَا، والقيانُ حضورٌ، جلسَتْ “هُنيدة” قبيل حلولِ المغيب، قبيل مثول الأخطلِ بين يدي الخليفة ثُمَّ تغنّتْ :
وَلوْ أمْسَى على تلفِي مُصرّا
لقلتُ مُعذّبي باِلّلهِ زِدْنِي
وَلا تَبْخَلْ بِحُبكِ لِي فإنِّي
أغَارُ عليكَ مِنكَ فكيْفَ مِنّي
نظرَ الخليفةُ وقد أسَرَتهُ الصبيّة بسُمرتها الاستوائية، وأنشد شِعراً، لو أتيح ل”كريستينا” أن تسمعهُ بأذنها الأعجميّة، لانقشع الغيمُ في الغابات الإستوائية، ولأسبلتْ السماءُ عيونَها، ولأرسلتْ شياطينها تأخذ الصَبيّة، قبل أن يرتدّ بصرُ الخليفة إليهِ في دمشقهِ :
قالوا تَعشّقهَا سَمْراءَ قلتُ لهُم لوْن الغوالي وَلون المِسكِ والعودِ
عرِفَ الخليفةُ أنّ الشّاعر غائبٌ، وأنّ التلهّي مع “هُنيدة” مُباحٌ مُستحب.
أمسَكَ بذراعِ “هُنيدة” واستدناها إليه . تغنّجَتْ الصبيّةُ وتأوّهتْ، وكادت أن تقول : هيْتَ لك . مجونُ الخِلافة غير خلاعةِ الآخرين ، لا رَيب . لكأنّ سَمَر الخلافةِ بلْ وتعهّرها، هو مِن سِمَات الحُكم وعلامات رَشده .
حدَّثَ كُتابُ السّيَر الأمويين ورواةُ وقائع تاريخهم، ومنهم الجاحظ في رسائله: الرسالة الرابعة عشرة “كتاب القيان” ، ج1:
( واتَّخذ يزيدُ بن عبد الملك حُبابة وسلاَّمة وأدخل الرجال عليهنَّ للسَّماع، فقال الشاعر :
إذا مَا حنَّ مَزهرها إليها وحنَّتْ دونه أُذُن الكرامِ
وأصغوا نَحوهُ الآذان حتَّى كأنّهُمُ وَمَا ناموا نيامِ
وقالَ في سلاَّمة:
ألم ترها واللهُ يكفيك شرَّها إذا طرَّبتْ في صوتها كيفَ تصنعُ
تردُّ نظام القول حتَّى تردَّه إلى صُلصُلٍ من حلقها يترجَّعُ
وكان يسمع فإذا طرب شقَّ برُده ثم يقول: أطير!؟ فتقول حبابة : لا تطير فإنَّ بنا إليكَ حاجة.)
قالَ مُحدّثي ، وَالّذي شهِدَ بعينيهِ مَا جرَى :
- هلْ كانَ ل”هُنيدة” أنْ لا تقول إلّا : “هيْتَ لك ؟” ، ذهبتْ معه طائعةً إلى ما وراء الأستارِ وحِجَابِ اللحظة . تشاغلنا عنهُما بمشاغباتنا التي كنّا عليها ، فيما ترامَى إلى أسمَاعنا صَوْتُ الشّبقِ واصطراعُ الجسدين وتأوّهاتهما ، فمَا بانَ لنا أيُّ فاعلٍ منهما يفعل بالآخر، فعل المغانج، واختلاج الأبدان في غنائها المستطرب .
سَيُحدّث رواةُ الإستقصاءِ عَن خليفةٍ أمَويّ أنكرَتهُ نَهاراً، مآثرُ أجدادهِ، كمَا تعدّاه نسلُهُ مِن بعد، إذ صَارَ يفعل فِعلَ الزنادقةِ الخارجين عَن القيَم والخطوط الخضراءِ والحمراءِ، فرأوهُ في استخمارهِ وقدْ استدنى من النساء الغواني، المتكسرات ليناً وشبقا ، ومن الفجَرة والزُّناة، مَن لم يبق لهنّ ولهم، غير شِبرٍ مِن مَرمَى حِجارة الرّجمِ، فيسعد لياليهِ بصحبتهم حتى إشارات الفجر وبشاراته. كتبَ لِوالٍ في أطراف مدينة التُّراب، يطلب غانيةً ملفوفةً في بياض بشرتها وفي استدارةِ حواشيها، وكأنّه يطلب مُهْراً يركبهُ لمعاركه. ما بُهتَ الوالي، بل نظر في القوائمِ المحفوظة في بيت النساءِ، في جوارِ بيْت المال، فوافاه سدنتهُ ب”هُنيدة” بنت “السُّلافة” .
- مَنْ تكونَ أمّها . . ؟
سألَ مليكُ المُلكِ السّدَنةَ والمرافقين، فقد رابَهُ الإسمُ ، واستمزجَ في حيرته مستشاره المُستخمِر، ليعينه برأيٍ حول الصبيّة الشهيّة، إنْ أضمرتْ الشبكة الإلكترونية ما تخفيهِ عن “هُنيدة”، أو إن نقّب المستشارُ في العتيقِ من مراجعه ، وقواعد بيانات حاسوبهِ ، عن تفاصيلِ أمِّ الصبيّة : “السُّلافة” . ألا يندسّ الفسادُ في طيّاتِ بشرتها الّلينة ؟ أولا يكون الإلتواءُ مندسّاً في الخطّ المُستقيم ؟
السؤالُ في سفورِه، هوَ سؤالُ السّلفِ عَن الخلفِ ، وَعَن استيلادِ الوجودِ من عدمٍ سَديميّ، أمْ ترَى هوَ الإنفلاقُ عَن انفجارٍ تخفّى في سرّ الذرة، وهيّ في انتفاءِ وجودها ؟
قالَ الرّاوي :
- مِن العِنبِ استعصَرَتْ أمُّها “السّلافة” روحَها، فجاءَ الرّحيقُ “هُنيدة”. وزعم بعض الرّواة أنّ اسمها “عنّاب”، أمّا النبيذ فمن غابةٍ تخفّت وراء خطوط الإستواءِ ، دوارقها عند “كريستينا”. .
ولكن أترى في الكِتابِ أثراً لجنرالٍ مُلتحٍ إدّعى الخلافة ، فقطَعَ من خِلاف، ورجمَ بالحصباءِ بعضَ إمَاءِ الدولة ، وشنق بحبل الموت شيخاً تجاوزَ سبعينه فالتبستْ عليهِ دُنياه ؟ (أقرّ الرئيس الأسبق في السودان الجنرال جعفر نميري، يناير 1985، إعدام الشيخ محمود محمد طه مؤسس الحزب الجمهوري الإسلامي في السودان، بتهمة الرِّدة ).
دهشَ الأخطلُ في مدينتهِ التُرابيّةِ من السؤال، وقد أنصَتَ لشاعرٍ مِن جبلِ لبنان، هوَ سعيد عقل ينشد في مسرحية*”بنتُ يَفتاح ” (1935 ) :
الحنَايا مَعابِدٌ وَصَلاةٌ والأياديَ كنّارةٌ وَدُفوْفُ
ثمةُ جنرالاتٌ بلِحىً مُزيّفة – إذاً- وقفوا عند صَدرِ البيتِ وأغفلوا عجزه. .
لكن وقفَ الرّاوي عندَ بابِ الخلافةِ، وزادتْ حيرتُهُ، إذْ التي حسبها الشاعر محبوبته “هُنيدة” سقط قناعها، فكانت أكذوبةً مِن سرابيل فارسية، وربابة بلا أوتار وبلا صوت وبلا غناء . .
الخرطوم أغسطس 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.