لماذا نزحوا إلى شمال السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    القادسية تستضيف الامير دنقلا في التاهيلي    تقارير تتحدّث عن قصف مواقع عسكرية في السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    مانشستر يونايتد يتعادل مع توتنهام    ((سانت لوبوبو الحلقة الأضعف))    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هُنيْدَة: كِتابةٌ كالشِّعرِ وَكالرّوايَةِ: غَوايَةُ الأسْرارِ .. بقلم:جمَال مُحمّد إبراهيْم
نشر في سودانيل يوم 15 - 12 - 2012


قال الأخطلُ، غيّاثُ بن غوث يُحدّث أطيافه:
- ذاكَ صديقي الجالسُ القرفصاء، حاضرٌ يقظان، قبل ارتفاع الماءِ وبعدَ انخفاضِ الوديان، البعيدُ عَن، والأقرب مِن، كلِّ الخطوط. القريبُ مِن، والأبعد عَن، كلِّ المغامرات. المُحايدُ في العِشق، القديم فيه، قِدَم النبيذ المُخبّأ في الأقبية، منذ بدء سنوات الخلافة التي عتقت عقودها مسارات التاريخ. .
سكتَ عن كلامِهِ المُلتبس ولزمَ اليَم، والحوتُ الوحشي متربّصٌ تحت الموج.
تطلّ أطيافٌ ترافق النجومَ الرّاحلة قُبيلَ بزوغ الفجر. قُبيل مغادرة الطيور أعشاشها. قبيل لعقِ الورود أنداءها. لكأنّ الرّاوي يتلقّى وحياً مِن بينَ خيوطِ الغسَقِ وسكونِ الشموس وتحليقِ العصافيرِ، فكتب بقلمٍ مأمور كالمسحور:
( هوَ مَزْجٌ مِن طينٍ بَدَويّ تستغويهِ غاباتٌ وَصَحارَى. أوديةٌ وسهول. يتحرّش بنساءٍ من نورٍ وهنّ كمثلِ عروْسات النيلِ، سودانيّات مغموسات في عَجينِ الخُمْرة، مغسولات بعسلِ الصّندلِ وفوحِ العطر الواخز للشهوة. أحراشٌ ورمالٌ/ بينهما يتوزّع تاريخٌ في الأنحاءِ/ كأنّ طريقَ الليلِ نهارٌ/ أو انّ نهارَ الليلِ متاهة. .
في عكوفه لصياغة هُويّته الخاصّة، بتقاطيعهِ المُميَّزة تلك، شخَصَ مراوغاً بلا حدود. نظرَ وراءه في غضبٍ، وأمامه عالمٌ مغضوبٌ عليه، بل ومغضوبٌ منهُ.
"ريْشُ النّعام" عند القاصّ البارع "عيسى الحلو"، في عصرِ السَّنوات الوسيطة من القرن العشرين، هي كتابة "الشاب المُهذّب"، والرّيش ممّا يعبث بهِ الرّيحُ ، وَمِمّا يُقارب التهذيبَ ويتوشّجه. عند صديقي الرّافل في الموْج الأبيض، للنّعام بيضٌ، مثلما كان لهُ ريشٌ عند عيسى. هو افتضاح العُري قبيلَ انشقاقِ اليَمِ تحتَ سنابكِ خيلِ فرعون، تعدو خلفَ النبي موْسى.
قرأتُ ما كتبَ- قالَ الرّاوي- كتابةً بديعة الرؤى، يصعب تصنيفها وتحديدُ هويتها، وكأنّها مكتوبة بقلمٍ مُتفلّت المزاج، يعاند المعنى ويتمرّد على التراكيب. لا أعرف أينَ التقىَ الكاتبُ "هُنيدته" تلك. .؟ أفي الحُلم، أم استوهمَها في سَردهِ الباذخ البوْح، المنطلق بلا كوابح. . بلا أعِنّة. . ؟)
هل ادخل لأقصّ عليكِ بوجداني أمْ بقلمي، أمْ بقلم الرّاوي ؟ هل تكونين يا "ُهُنيدة" شّفرتي التي تنفتح مغاليقها، لي أنا الرّاوي لا للأخطل أو لخِدنهُ، ذلك التائه في بريّة الخلافة الأمويّة. . ؟
ضحكَتْ "هُنيدة"، ضحِكَ الغانيات في غُنجٍ مُستهترٍ، يستدعي شيطانَ الرّغبة في الليل البهيْم والنجوم في مَسغبة.
ثمّ هتفتْ وهي تُصلح خِماراً لا يثبت فوقَ رأسها:
- قد اكون أنا في أحلام الكتابةِ الطليقة، حبيسة عشقي وقد لا أكون . تمرّدي لايقف عند حدودٍ، كما أنّي حبيسة دهليزي، فلا أعرف في وَسَني مَن أكون : أأكون ملاكاً في
أحلامي أم شيطاناً في صحوي. .؟ كلّما أَحكمَ الدهرُ حصاره وأفقتُ في مناماتي، أضاءتْ دواخلي بمحبّةِ شاعري وعاشقي الغائب. هل تراكَ تصدّق ما أحكيهِ لك ؟
يقول الرّاوي أنّ "هُنيدة" رَحلتْ- وهيَ محضُ طيفٍ- مع شاعرها البعيد، فتلاقيا لقاءَ الشّبح للشّبحِ المُقيْم، وتمازجا مزجَ الخيالِ بالطّيفِ الرّاحل، كمثلِ لقاءِ الأخطل بالرّاوي، وما مِنْ شبحٍ ينطق، ولا مِنْ خيالٍ يجمح، بمثل جموح ذلك البعيد، بعيونٍ مُغمضةٍ، نحوَ الفتكِ – أو هو الفتقِ – بنسوةٍ شبقات من أسفل تكوينهنّ إلى أعلاه.
تلاقيا سِراراً، وعزما أن يكون خباؤهما في الشباك العنكبوتية، أومُستخفيَينِ وراء نسجها، آمنَين مُطمئنَين وراء حُجبٍ افتراضيةٍ في أثيرِ العشق، أو تحتَ فضائيات ظليلة، لا يرصدهما راصدٌ أو يهتكر خلوتهما "هاكِر". لم يقف تلاقيهما عند تخومِ الخيالِ، بل تعدّياه تَسرُّباً ميسوراً، إلى خرائط البدنِ ورسومهِ الصّارخة، وأطرافهِ المُستديرة، وثناياهُ المتكوّرة، وفاكهتهِ النافرة، وحريرهِ المُنسدل، ورماناتهِ المنفلقة وورده ِ وياسمينهِ وفلّهِ ورياحينهِ. ما كان التلاقي تلاقياً غُفلاً، بل استحالَ والطّرْفُ مُغتضٍ، إلى انكبابٍ وانسكابٍ ومَزج وحرق وانطفاء، فذهب منه ما يندلق سلسبيلاً ، مِن قطافِ الأعنابِ إلى الدوارقِ وإلى الكؤوس، يتشوّقها النبيذُ، توقاً وامتلاءاً، فكيفَ بالسّاقي ومَا إليه مُشتكَى . . ؟
سكَنَ الطيفُ بغتةً فتوقّف الرّاوي، لكنّهُ سجّل مُلاحظة طارئة في دفترهِ وقد حوَى بعض قصائد الأخطل القديمة، فتحيّرَ قليلاً، ثمّ سأل :
- وَهل يُسعِف شعرُ "ابن زُهْر" عليلا. . ؟
ثُمّ أضافَ يستعيد مِن فيضِ خواطِرٍ، أعانهُ عليها خِدنُه الأخطل في أماسٍ دمشقية أمويّة حالمة، تشابه برغم فراسخ البُعد الطويلة ما كتب ابن زُهر :
( إنّ صديقي الشَّاعر ينطق عَن هوىً وعَن وَجدٍ وعَن مُعابثة، فلا قلمُهُ ينبو فهوَ سيفُ الكلامِ، ولا لسانُهُ ينثقلَ إذْ هوَ أُسّ الحِجَى/ ولا همْسُه همهمات/ فكلّ الصِوات هُنا مثل قرْع الطبول. أجازف أن أعبر هذي الخطوط، هيَ حمراءُ في السّاحاتِ الإلكترونية تشاغب، أو خضراءُ تسامح، أترجِمُ لكَ إلى اللغةِ المدرسيّة ما تواتر من أطيافه الحائرة، وقد أعملتُ كوابحَ اللغة قدرَ ما تبيح الحروفُ المنخفضة، التي جاءتْ مِن طبيعةِ الأراضي التي أقام فيها صديقي بعضَ عمرِهِ، فاستعلتْ كتابته وَسَمَتْ، فكلمّا ضاقتْ الأرضُ وتخافضتْ أنحاؤها، تكاثرتْ الرؤى وتدفقتْ خمورُ الكلام ، فسكرَ السُّمارُ مَعهُ في حانهِ الهولندي:
( استعمَرَتني البنتُ إلى أبعد حدودِ الاستعمار. لم تترك ليَ يومذاكَ، عقلاً يُدرِك ما استرابني مِن أحوالها، فلم تقلْ لي لِمَ هي غاضبة عازفة عن التفاعل معي ، مُتمرّدة تزدريني. . ما اعلنتْ أسبابها لاستعذِرها، فحسبتُها تُعاند عنادَ أنثى ذات غنجٍ، وترمقني تدلّلا. نظرتُ قلقاً. لا خارطة طريق تأخذني إلى تضاريسِ قلبِها، ولا مفاتيحُ تُعين عزمي على فكِّ مغاليق شفراتها. أزمعتُ أن انظر كيفَ اجلسُ إليها دونما ارتياب، أو كيفَ أعيد صياغة كتابي إليها، وأرتّب ذخيرتي مِن الكلامِ قبيلَ أن أحشو خرطوشتي وأصوّب. لا أنكر أنني أحببتُ غموضها واستنكافها عن التشاغف مَعي. ذيّاكَ مَكمنُ جبروتها وطغيانُ قلبِها عليّ. كنتُ أحسّ قوّتها تتماهَى معَ ضعفي أمام عُنفوانها، تتسيّد عليّ وتستعبد دواخلي، فامتلىء انكسارا، فما يزيد من خيلائها، إلّا إسلامي إلى استقوائها بضعفي، وتمتّعها بما ترتشف مِن خمرِ إذلالي سَكَراً، ولا مخمور سوايَ وقلبُها النافر. ما سكِرَت ْ هيَ، بل أنا المنتصرُ في ساعةِ هزيمتي، فلقد ملكتُ حرّيتي لحظةَ رسفتُ في قيودي، واستكبرتُ استكباراً بعبوديةِ قلبي لها، وانشراحه بذُلِّ عشقيِ متيّماً بها، وَدَوسِ المحبةِ بمَيسَمِ سِحرها. لا أهرب من إذلالي ولا أجدني إلا مُرتاحاً راكعاً، مليْكاً عند قدمَي أميرتي، ثمّ تأسرني حيرتي كيفَ أنشىء معادلةٍ تُعيد توازنَ قلبي معَ قلبها. جسدها مع جسدي. التذاذي مع التذاذها. أنْ نصل إلى أقاصي النشوَة معاً، في غيبوبةِ الوجدِ، فأتماهَى معها وتغتسل بي. نتساوى عشقاً وكلانا قابَ قوسين أو أدنى مِن شجرِ الخلود.
......................
لم يُغلق الرّاويّ بابَ الكلامِ المنقولِ، بهلالٍ ختامي، كما درَجّ أن يفعل عندَ كلِّ استشهاد، وبعدَ كلِ إملاءٍ، وكأنّ الشاعرَ أرادَ أنْ يصطنع للإلتباسِ حِلية تُلبسها ما سيأتي مِن كلامٍ قد يطفر من قلمهِ، فتكون قصةً ممّا سيرد أدناه.
"هُنيدة"، في أوّل القصّ وفي آخرِهِ . . لكنّ الرّاوي في حيرته سأل:
أيّتها العابثة، أمَا طلبَ منك شيئاً حميماً. . مِن بعضِ فِكرك ، بعض خيالاتك، بعضَ جسدك، يستلهي بهِ في دهاليزهِ الإفتراضية ؟ ما تصوّرتُ، والبلّور يناور بينَ عَصْر وعصرٍ، أنّ ل"صلاح الدين" القائد، هذه القُدرة على الدّخول إلى مواقعِ الشبكةِ العنكبوتية، فيستدعي زوجة "ريتشارد" ليُعابثها في مُسامرةٍ افتراضية على شاشةِ حاسوبه. يطلبها فتستجيب سليبة الإرادة، ناسية استئساد قلبها على الغائب الحاضِر، فيصيدها في "شِباكه" و"مسنجراته"، وكأنّهُ لا يُدرك أنّ شباك "الانترنت" في أصلها، صنيعة أمريكية ستفضي برصانتِهِ إلى فضائح "الويكيليكس"، وستمضي بثباته إلى هلاك. أهيَ الحروبُ الصليبية يا ترى . . ؟
أينَ ذهبَ الأخطل وتركَ الرّاوي مفقوداً في ذاكرته . . ؟
صاحَ الفارسُ وَمقبض السّيفِ بين أصابِعِهِ :
- أريدكِ أنتِ قبلَ أن أبارزه هوَ. لا مذاق للنّصر ولا طعْم للغلبةٍ، إلّا حين تدنين منّي فأقُرب منكِ مُنتصباً قائما ، أرتشفُ من خمرِ جسدكِ ما يُسكِر. .
- ما غازلني قبلك أحدٌ- ولا "ريتشارد" نفسُهُ- مثل غزلكَ بي وتعابثكَ معي. هل تُقبّل يديّ . . ؟
- وأفعل أكثر ممّا تطلبين . .
واستضْحَكَهَا قوله ، فتراخى بدنها وتنهّدتْ ، ثمّ قالتْ :
- مَنْ ذلك الذي غزا أرضَ الفِرنجَة- فيمَا يقول السَحَرةُ والمؤرخون الكذبة- بفحولتهِ ، ليشبع غريزةَ الإنتقامِ لإذلالٍ قديمٍ عرَضَ له . . ؟
- مَقاتلُ الأسَدِ في انفراجِ فخذيك وفي ضمّهما. "حطّين" عندي، يا "غزال" الوادي، في الدّخول إليكِ، دخول الغزاة . .
وانقطعَ الوصلُ بغتةً . ثمّةُ "مُصطفى سعيد"* كانَ يستعيد مَجداً سليباً بآلتهِ في نواحي لندن، وأوزارُ الاستعمارِ ماثلة. دفع بفحولته إلى ساحةِ العِراك الحضاري، فكان الخُسران وكان التراجع. .
قالَ لهَا، والأثير أضاعَ كثيرَ كلامِه هباءاً منبثا:
- غزالي أنتِ، لا أرى في غاباتهم إلّاك. أستعذبُ إجفالك وتعابثكِ، كمَا أسعدُ بهياجِ قلبكِ وجسدِك يتصيّدني في انكساري أمامك . .
* هو بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال "للروائي السوداني الطيب صالح.
كانتْ زوجةُ "قلب الأسد" الافتراضي، عاهرةً منسيّةً، وأميرةً صعلوكة .
لا سقف لطموحات قلبِها العاشق، ولا لطلعات جسدها الشبقة. تمنح وقتما تحبّ، وتمنع وقتما يشاء قلبُها. كتبَ "الأيوبي" في دفترِ الكاتبِ السرّي :
( رأيتُها في شاشةِ حاسوبي، تتلوّى مِن وَخزِ الشّهوةِ، ترفع قدماً فينكشف السّر. تلعق إصبعاً، فلا يبقى في غاباتِ السِّحر، إلّا عسلُها وأنداؤها. ل"ريتشارد" حروباته وغزواته، ولامرأته حروباتها وغزواتها. مَن كان يصدّق أنّ اللبوَة لن تصبر على أسدٍ هصورٍ مثل "ريتشارد"، فتراها تتشهّى جُندياًّ لا حول له في المقاتلة، ولا قدرة في الطعان، ولكنه الأحذق طعناً في الأسرّة. الباترةُ أسيافه في الأجسادِ الرّخوة الرَّطبة. .؟ )
مَنْ يجرؤ أن يستنطق لسانَ التاريخ، وفي بطنِ البحرِ المتوسّط أسرارُ الأسكندر الأكبر وفتوحات يوليوس قيصر ومعاشقات أنطونيوس وكليوباترا. . ؟
يكتب الكاتبُ في دفترهِ المائي، ومِن وراءِ ظهرِ الرّاوي وقبيل أن يصحو الأخطل من غفوته في ذاك الدّير الدّمشقي :
( هَاهيَ "مَها". .
تتحوّلَ قبلَ شروق الشّمسِ/
إلى أنثى بمُسمىً آخر . ./
سَتكون قبيلَ نهار اليوم، امرأة ثالثة بصليبٍ ذهبيّ. . /
سمّوها "مريم"، ويقيني انها ستتحوّل إلى عدّة نساء أخريات، ما بين انتفاضة جسدٍ قبيل خسوفِ الكوكب، وهمودِه ، تتعدّد أسماءٌ، والشاهدُ قمرٌ. .
إنّها امرأةٌ في عِدّة نساء. أوعِدّة نساءٍ في امرأة واحدة، مثل العرائس الروسية. تفتح الصندوق وتستخرج عروسة. تفتحها ثانية فتجد بداخلها عروسة أخرى، وتفتحها ثالثة فتجد عروسة أصغر. . تفتحها لتجد رابعة ، ثُمّ خامسة . . إلى التلاشي.
لمحتُ اليَومَ، لهيباً يخرج من جَمْرِ الشهوة/ يُمسك خيطَ اللحظةِ خيطاً خيطاً/ ودواعي الشّبق المَنسيّ على ورقِ الورد. ./ خطراتٌ تفلتْ بمزاجٍ طاغٍ مِن ساحرة أنثى/ لو كانتْ في غيرِ أوانِ العصرِ، لكانتْ كاهِنةً في معبد/ أو آلهة غافيةً في مَخدعِ عِشقٍ مَنسيّ/ أو عاهرة في قمةِ جبلٍ أخفاه الغَيْم.
هيَ الأنثَى المُتطلعةُ باقتدارٍ لتمتلك مصائرها، ليسَ لإشباعِ الرّغائبِ الجسديّة فحَسْب، بل لاستقصاءِ أقصى حدود الطاقةِ، تستنطقها في الوجود المُزدحم بالممنوعات وبالمَحاذير وبخطوطٍ باللّون الأحمر مرسومة، فتربحها الحياة ويخسرها الناسُ. قالت ل"صلاح الدين" الافتراضي، وحطّين في حُلم الذاكرة : هيتَ لكَ، ولم تقلها لقلبِ الأسدِ ، فمَن يملك إدانةً لامرأة العزيز. . ؟ )
نظرَ الكاتبُ في الذي جرَى، ولكنّه عرفَ مَا لم يكن مُعرَّفاً قبلاً ، وأدركَ ما لم يكن مُدركاً مِن قبلِ، في أسفارِ الغيْبِ ، فأنشدَ ما قاله أبو تمام:
ولمْ أرَ مِثلي مُستهاماً بمثلِكُمْ ولا مِثلَ قلبيَ فيهِ مَا فيهِ لا يَغلي
ثمّ كتبَ:
هاهيَ "هُنيْدة" السَّمراء، وقد وقفتْ مثلَ ما وقفتْ من قبل في كتبِ الأسطورة إلهاتٌ أنثوياتٌ مثل "إيروسا"، وهيَ توخزه ذلك الوخز المتواتر. "إيروسا" هي صياغةٌ مِن سالبٍ ومن مُوْجب، تكسب لونين. يحمل كيانها ذلك الرّخو الذي يُوخَز، وذلك الصّلب الذي يطعن.. هي كيانٌ في كيانٍ في كيان. هي المِدية الطاعنة القاتلة، وهي الجسد الطريّ القتيل . .
قال الرّاوي، في تسكّعه بين الخطّ الأحمر في دفتره، والخطّ الأزرق:
- هو سَفَهُ السّنواتِ الأخيرة، قبل سويعاتٍ مِن الرّحيل النهائي . ضحكتْ "بت مجذوب" – فيما حكى الطيب صالح في روايته تلك - وأضحكتْ كهولاً من حولها،
مِن سامعي حكاياتها، يسترجعون خيوطاً تبعدهم عَن عَصف الزهايمر الدّاهم، وتأخذهُم إلى أقاصَى حُلمٍ في ماضٍ راحل . ثمّةُ مَن لا يرى إلّا مَا يستوجب إقرار حدودِ الله ، حتى في اللحيظاتِ التي بقيتْ من أعمارٍ، عمَّرت حتى ارتدّتْ طفولة، وارتوتْ حتى جفّتْ ذاكراتها وغدتْ بلا صَلاحيّة. ثمّة مَن يَجْرؤ على محاصرةِ الحُلم وكسرِ الفكرة، كما تُكسر الّلوزةُ قسراً، فلا تسلم الّلوزةُ ولا محتواها ولا قشرتها. يا لحُمقٍ جريءٍ جاهلٍ. . !
لكنّ الرّاوي استدركَ كيفَ كانت سنواتُ طفولته وصباه. جاءتْ من ينابيع الوعي الغافي، مثل كلماتٍ مبتورة عن مقاطعها ، بلا بداياتٍ وبلا نهايات.
القوْسُ المُنزلقُ على وترِ النّغم، يئنّ ولا يسترجع أنفاسه. في ساعةِ الدّرسِ، يكون تلاميذُ الفصلِ في مكتب ورّاق دمشقي إسمه إبن الحسين، عاكفين إلى انكبابٍ وقراءةٍ صامتة، والمعلّم يتسلّل في أزقّة الصّمت المُطبق، يتحسّس بأصابعِهِ، ويتحرّش مجترئاً متغوّلا. لم تكنْ قراءة صامتة في مخطوطة، بل اعتداءاً صامتاً مكبوتا. لا مَهرب من مَلمسِ الكفّ الّلزج، تتلصّص في استحياءٍ على كتف صبيٍّ في براءة الرؤى. حدّث بذلك الأخطلُ وقتذاك، وقد شهد ما كان عليه الحال بينَ ورّاقي دمشق وتلاميذهم. لكن الصّبيّ صديق الرّاوي، أذعن مستسلما وأظهر رضا وقبولا، فضمن من مُعلّم درسِ الفقه ودرس الأدب، أن يمنحه كاملَ العلامات.
ملامحُ المُعلّمِ ذاك، هيَ ملامح ورّاقٍ قدِمَ مِن نواحي دمشق على أيّام الخلافة الأمويّة، إسمه ابن الحسين. .
"المَسكوتُ عنه" - إذاً - قديمٌ قِدم الخلافة الأمويّة . قديمٌ قِدمَ المُعلم إبن الحسين. .
ولكن هل أدرك "مصطفى سعيد"، أيامَ "هنيدة"، والخلافة لم تأفل بَعد. . ؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.