يواجه المسلمون في أميركا مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية ناضحة ومتطورة، ومؤسسات مدنية متطورة، مع حرية يراها المتدينون تتعارض مع القيم الإسلامية. خلاصة من بحث لؤي صافي ‘المنظمات الإسلامية وتناميها في أميركا'، ضمن الكتاب51 (مارس 2011) ‘المسلمون في أمريكا' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي. الحياة في ظل الدين لله والوطن للجميع يُعد الإسلام المتمثل في جالية إسلامية متنامية، ظاهرة جديدة في الولاياتالمتحدة، تعود إلى منتصف القرن العشرين. فقد بدأ المجتمع الأمريكي بالتعرف على الإسلام بصورة مباشرة من خلال حركة المسلمين السود التي عرفت باسم “الأمة المسلمة” (Nation of Islam)، والتي أسسها أليجا محمد، وكان مالكوم أكس ثم لويس فركان من أبرز قياداتها. تزايدت أعداد المهاجرين المسلمين إلى الولاياتالمتحدة مع مطلع الستينيات من القرن الماضي. فقدت شهدت العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، وفود أعداد كبيرة من المهاجرين المسلمين الذين قدموا إلى أمريكا طلباً للعلم أو بحثاً عن فرص أفضل للكسب والعمل، أو في بعض الحالات هرباً من الاضطهاد السياسي وتقييد الحريات الذي ازدادت وطأتة في الستينات من القرن الماضي في عدد من الدول العربية والإسلامية. تزامنت هجرة المسلمين في السبعينيات والثمانينيات مع تنامي الحركات الإسلامية والدعوات إلى تأكيد الهوية الإسلامية. ونقل عدد كبير من الطلاب، الذين وفدوا لمتابعة تعليمهم الجامعي في الولاياتالمتحدة، الأفكار الداعية إلى إعادة تأكيد الهوية الإسلامية والالتزام بتعاليم الإسلام وقيمه. وأسس الطلاب المسلمون المهاجرون في مطلع الستينيات رابطة الطلبة المسلمين (MSA) في العديد من الجامعات الأمريكية، التي عملت على لمّ شمل الطلاب المسلمين، وتوفير الخدمات اللازمة لهم. كما عمدت رابطة الطلبة المسلمين إلى تنظيم الندوات والبرامج الثقافية لتعريف غير المسلمين بالإسلام، والتصدي لحملات التشويه لحقائق الاسلام والمجتمعات العربية والإسلامية. وسرعان ما انخرط الطلاب المسلمون في المشاريع الجماعية لبناء المساجد المحلية، والتي أصبحت على الفور مراكز لجميع المسلمين، سواء أكانوا من الطلاب الوافدين أو المواطنين المقيمين. يواجه المسلمون المهاجرون في أميركا ثقافة نابضة ومجتمعاً يتميّز بمؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية ناضحة ومتطورة. كما يتميز المجتمع الأمريكي بمؤسسات مدنية متطورة تعمل على مراقبة نشاطات مؤسسات الدولة ومراكز السلطة، وتحول دون أصحاب السلطة وتحقيق مصالح شخصية أو فئوية بعيداً عن المبادئ الدستورية. كما يتميز المجتمع الأمريكي بثقافة سياسية فاعلة تدفع الأفراد إلى المشاركة بالشؤون العامة ضمن أجواء من الحرية والفاعلية الفردية. تدعو الثقافة السياسية الأمريكية الفرد إلى احترام القانون والمواجهة الصارمة للتجاوزات القانونية لأي فرد؛ مهما علا مركزه الاجتماعي والسياسي. هذه الثقافة أجبرت الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نكسون إلى الاستقالة بعدما تمكن صحفيان من اكتشاف دوره في التجسس على خصومه السياسين، مخالفاً بذلك القانون الأمريكي. كذلك توفر الثقافة الأمريكية لأبنائها فرصاً لتطوير مهاراتهم القيادية والإدارية والتنظيمية، فقد تحولت الإدارة إلى علم هام تعمل على تطويره مراكز أبحاث وجامعات كبيرة، ويمكِّن القائمين على المؤسسات العامة والأهلية من استخدام وسائل متطورة للتواصل والتنظيم والتدريب. مكَّنت البيئة الثقافية الأمريكية المسلمين ومؤسساتهم الاستفادة من الإرث الإداري لتنظيم جالياتهم ومنظماتهم الاجتماعية والدينية. فالعديد من قيادات الجالية تلقت تعليماً جامعياً متطوراً، ومارست أدواراً إدارية وتنظيمة في مؤسسات تجارية وحرفية مهمة. كما استفاد المسلمون المهاجرون من مهارات العمل الجماعي، وتمكنوا من توظيفها من أجل تحقيق المصالح المشتركة. في مقابل الجوانب المتطورة في الثقافة الأمريكية، التي تركت أثاراً مهمة على تكوين المؤسسات الإسلامية في الولاياتالمتحدة، فإن الثقافة الأمريكية تتصف بخصائص تتعارض مع القيم الإسلامية. ودفع التساهل الأخلاقي العديد من الآباء المسلمين للبحث عن البدائل التعليمية والنشاطات الاجتماعية لأطفالهم، وجلبتهم بالتالي إلى المراكز الإسلامية، وسلطت الضوء على أهمية المجتمع المحلي والتعاون الجماعي. تنقسم العلوم الحديثة إلى دوائر معرفية مستقلة، كدائرة المعرفة الرياضية والكيماوية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والفلسفية. وتفتقر الدوائر المعرفية المستقلة إلى الرؤية الكلية الضرورية لربط الخبرة الإنسانية في إطار مشترك. هذا الإطار الذي وفره التعليم الديني والفلسفي يكاد يغيب اليوم عن النظم التعليمية في المجتمع الحديث. ويعود افتقار الرؤية الكلية في العملية التربوية والتعليمية إلى تراجع الوعي الديني تحت وطأة النقد الفلسفي للرؤية الدينية خلال عصر الأنوار، ثم تراجع الوعي الفلسفي تحت تأثير الوضعية الحديثة التي حصرت النظر المعرفي بالبحث التجريبي. ولأن النظام التعليمي في المجتمعات العلمانية الحديثة لا يتعامل مع أية رؤية دينية للحياة، فقد سعت الطوائف الدينية المختلفة إلى تزويد هذه الرؤية من خلال التعليم الإضافي، ومدارس الأحد التي تشرف عليها الكنائس المسيحية والبيع اليهودية. أما المجموعات السكانية التي لا تنتمي إلى طوائف دينية فإنها تعرّض أبناءها إلى الحرمان من المصادر التعليمية اللازمة لتزويد الأجيال الجديدة بالمعنى الكلي للحياة والأساس الأخلاقي للسلوك. لقد دفع الفصل الكامل بين الدين والدولة، والتعليم الديني والفني، المسلمين إلى إنشاء مدارس إسلامية لإعداد أبنائهم تربوياً وأخلاقيا، كما وضعتهم أمام تحدي تطوير التعليم الديني والتربوي ليتناسب مع الوطن الأمريكي الجديد ذي الأعراف والتقاليد الاجتماعية والثقافية المختلفة. وتصدى العديد من المتخصصين في قضايا التربية والتعليم لهذا التحدي، وعكفوا على تطوير مناهج جديدة للتربية الإسلامية قادرة على إنتاج شخصيات متوازنة تجمع بين الفعالية الاجتماعية والفنية من جهة والالتزام الديني والاستقامة الأخلاقية من جهة أخرى. وعلى الرغم من الجهود الجادة الهادفة إلى تطوير التعليم الإسلامي، سواء على مستوى المدارس الإسلامية المستقلة، أو على مستوى مدارس نهاية الأسبوع المكملة، فإن تحدي التعليم مازال قائماً. ذلك إن المطلوب تطوير مناهج تعليمية تتجاوز التناقضات التصورية والقيمية الناجمة عن التناقض بين الرؤية العلمانية والرؤية الإسلامية للإنسان والحياة، وصولا إلى تناغم في المضمون المعرفي بين المعرفتين الدينية والمدنية، وبالتالي تحقيق الهدف الأساسي من التعليم المدرسي المتمثل بتكوين الشخصية المتوازنة والفاعلة. يتوقف نجاح مشروع المدرسة الإسلامية في أمريكا على تحقيق التوازن التربوي عبر تطوير مناهج دراسية بديلة قادرة على تحقيق التكامل بين المعرفة والوعي، وتوفير العناصر المعرفية الضرورية لتحقيق هذا التوازن، وتحديداً: 1- تطوير وعي واضح عند الطلبة بمسؤولياتهم الأسرية والاجتماعية والإنسانية. 2- توليد رؤية واضحة لمسؤوليات الفرد المسلم لتطوير الحياة الإنسانية وتحقيق رسالة العمران. 3- تطوير أساليب التفكير المنهجي وتزويد الناشئة بالمعرفة الموضوعية في المجالات المعرفية الاجتماعية والطبيعية.