بقلم: د. خالد علي لورد أعلنت اللجنة المنظمة لجائزة نوبل عن فوز الاتحاد الأوروبي بجائزة نوبل للسلام للعام 2012م وذلك لجهده الكبير في مجال ترسيخ قيم السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن المعروف أن نتشأة الاتحاد الأوروبي جاءت كفكرة لمشروع سلام بعد الحروب الضروس التي عانت منها أوروبا على مدي قرون وعقود من الزمان. فما هو الاتحاد الأوروبي وكيف نشاء وتطور؟ بعد الحروب الكثيرة والطويلة التي خاضتها أوروبا بما في ذلك الحربين العالميتين الأولى والثانية وبعد المعاناة الكبيرة والفقر والعوز والمرض التي واجهتها الشعوب الأوروبية، بدأت هذه الشعوب تقتنع بضرورة وجوب تغيير قيادتها التي أدوت بها إلى ما وصلت إليه ورمت بها في إتون الحرب ومهالكها، وجاءت بقيادات أخرى من رحم المعاناة بقناعات جديدة فعملت على صنع السلام وحفظه. ووضعت هذه القيادات التجارب المحلية والإقليمية والدولية التي أكدت أن صناعة السلام وحدها لا تكفي ومثالا على ذلك عصبة الأمم التي تواضعت كل الدول الكبرى على ميثاقتها الداعي إلى نبذ العنف وحل المشاكل بالوسائل السلمية، لذا لم تكتفي بصناعة السلام وحفظه بل عمدت إلى نهج جديد بناء السلام وذلك من خلال ترسيخ قيم الحوار ونبذ العنف وحل المشاكل بالوسائل السلمية وقبول الآخر وتعميق ثقافة السلام في نفوس الشعوب والجماعات فوفرت بذلك أرضية قوية صلدة وخصبة لتأسيس مرحلة جديدة بين دول القارة، خاصة الغربية منها بعد تسبب الحرب الباردة في انشقاق القارة إلى شرقية تحت مظلة الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو آنذاك، وغربية تحت مظلة حلف شمال الأطلسي. وقد كانت هناك ثلاث دوافع رئيسة دفعت أوروبا للتفكير في تأسيس هذه المرحلة الجديدة أولها كان إحساس أوروبا بمدى ضعفها بعد الحروب والنزاعات التي دمرتها بالكامل، وأنها قد فقدت موقعها المركزي والاستراتيجي المؤثر في الأحداث العالمية، وأن العالم أصبح تسيطر عليه قوتان عالميتان هما الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي اللتان تملكان من القوى العسكرية والسياسية والاقتصادية ما يفوق الدول الأوروبية متفرقة. وثانيهما الحربان العالميتان والحروب الأهلية جعلت من أوروبا مسرحا للمعارك والاقتتال والمعاناة، لذا لم يعد أحد يرغب في استمرار الحرب أو إندلاع حرب مجدداً. وثالثا تبلور فكرة السلام والأمن مع نظام عالمي يحفظ حقوق الإنسان والدول. رئيس الوزراء البريطاني آنذاك وينستون تشرشل كان قد عبر في كلمته المشهورة التي ألقاها في مدينة زيورخ السويسرية في 19/9/1946م عن رغبتة في تأسيس “الولاياتالمتحدة الأوروبية” تحت قيادة مشتركة لفرنساوألمانيا على أن تلعب المملكة المتحدة فقط دور الداعم لهذا المشروع وليس عضوا فاعلا فيه. وفي الوقت ذاته لكانت السياسة الفرنسية السلبية تجاه ألمانيا قد اثبتت فشلها وعدم جدواها. قدمت فرنسا عام 1950م على لسان وزير خارجيتها آنذاك روبرت شومان، الذي تجاوز كل التحفظات والمعارضة البريطانية، اقتراح تأسيس اتحاد للفحم والفولاذ مع ألمانيا تكون عضويته مفتوحة لمن يرغب من الدول. وجاء في البيان الذي ألقاه شومان في التاسع من مايو عام 1950م بوزارة الخارجية الفرنسية أن بلاده تقترح تأسيس اتحاد للفحم والفولاذ مع جمهورية ألمانيا على أن يكون باب العضوية فيه مفتوحا أمام الدول الأخري الراغبة في الانضمام إليه. وذكر شومان أن هذه الخطوة ستمهد الطريق أمام تعاون أكبر في بقية المجالات الاقتصادية كما إنها تمثل حجر الأساس لمشروع الوحدة الأوروبية. غير أن الهدف غير المعلن من وراء الفكرة كان السيطرة على مناطق إنتاج الفحم والصلب الذي يستخدم لإنتاج السلاح الذي تضرر منه الألمان والفرنسيين على حد سواء. وقد أصبح مشروع شومان حقيقة واقعة بعد أن وقعت كل من (بلجيكا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، ولاوكسمبورغ، وهولندا) على عقد تأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ والذي أصبح ساري المفعول بتاريخ 23 يوليو 1952م. بعد الموافقة المبدئية على تأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ شرعت الدول التي أعلنت عن موافقتها الدخول في مفاوضات حول تشكيل مؤسسات المجموعة معاهدات روما تأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ كان بمثابة “اتفاقية سلام” بين فرنساوألمانيا وشركائهما في المجموعة بتجاوز مرارات الماضي والسعي لتحقيق مستقبل أفضل يقوم على التعايش السلمي والتضامن فيما بينهم. اتفقت الدول الأعضاء في المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ على تحقيق مشروع السوق الداخلية المشتركة في إطار “المجموعة الاقتصادية الأوروبية”، وكذلك على تأسيس “المجموعة الأوروبية للذرة”. وقد تم التوقيع على تأسيس المنطقة الاقتصادية الأوروبية والمجموعة الأوروبية للذرة فيما يعرف ب”معاهدات روما” في 25/ مارس 1957م والتي أصبحت سارية المفعول بحلول الأول من يناير 1958م. الأسس الثلاثة للاتحاد الأوروبي النجاح في تأسيس السوق الداخلية المشتركة والمستجدات السياسية التي شهدتها أوروبا بعد إنهيار المعسكر الشرقي عام 1989م كانت تمثل تحديات كبيرة للأوروبيين وتتطلب التعامل مها بوعي ومسئولية؛ حيث كان لا بد من توسعة الصلاحيات الممنوحة للمجموعة الأوروبية لمواكبة و مواجهة هذه المستجدات، كذلك كانت هناك حاجة ماسة لإجراء العديد من الإصلاحات على مؤسسات المجموعة بما يؤهلها للقيام بأعبائها ومسئولياتها بشكل أفضل. نتيجة لهذه التحديات قررت المجموعة الأوروبية عقد مؤتمرين حكوميين بمدينة ماستريخت حول الاتحاد المالي، وإصلاح مؤسسات المجموعة. وقد تم جمع ما خرج به المؤتمران يومي 9 و 10/ ديسمبر 1991م في وثيقة. وفي يوم 7/ فبراير من عام 1992م تم التوقيع بمدينة ماستريخت الهولندية على “معاهدة الاتحاد الأوروبي”. احتوت “معاهدة ماستريخت” لعام 1992م الخاصة بتأسيس الاتحاد الأوروبي وتحديد أهدافه، أيضا على قرارات أخرى بشأن تعديلات في الاتفاقيات التي تأسست بموجبها عام 1951م “المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ”، وعام 1957م كل من “المجموعة الاقتصادية الأوروبية” و “المجموعة الأوروبية للذرة”، حيث أقرت المعاهدة استمرارية هذه المجموعات الثلاث مع تعديل اسم “المجموعة الاقتصادية الأوروبية” إلى “المجموعة الأوروبية”؛ كما احتوت المعاهدة أيضا على قرارات في مجالات السياسة الخارجية المشتركة وعلى تعاون حكومات الدول الأعضاء في مجالات العدل والشؤون الداخلية والأمن الداخلي والخارجية والبيئة. كما نصت معاهدة ماستريخت على وضرورة موافقة البرلمان الأوروبي على تشكيل المفوضية الأوروبية قبل أن تبدأ المفوضية عملها. كذلك حققت المعاهدة خطوات كبيرة في مجال الاتحاد المالي. ولأول مرة يتم النص صراحة على التعاون التنموي كأحد مجالات عمل المجموعة الأوروبية في معاهدة ماستريخت في المادتين 1 – 2 من معاهدة الاتحاد الأوروبي). حددت “معاهدة ماستريخت حول الاتحاد الأوروبي” في المواد من 11-18 ثلاث مجالات مختلفة للعمل تسمى ب “الأسس الثلاث “، وهذه الأسس هي: الأساس الأول وهو الأساس الخاص بمجالات عمل المجموعات الأوروبية الثلاث: “المجموعة الأوروبية” (المجموعة الاقتصادية الأوروبية سابقاً)، “المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ” و “المجموعة الأوروبية للذرة”، والتي تعد جزءا من الاتحاد الأوروبي، واهم هذه المجموعات الثلاث هي المجموعة الأوروبية التي تعتبر النواة الحقيقية التي قام عليها الاتحاد الأوروبي. ويشمل هذا الأساس مواضيع الاتحاد الجمركي والسوق المشتركة والسياسات التجارية والقوانين الخاصة بالتعليم والثقافة وحماية المستهلك والصحة والبحوث والبيئة والهجرة والحدود الخارجية واللجوء. الأساس الثاني الأساس الثاني خاص بالاتفاق الوارد في “معاهدة الاتحاد الأوروبي” والتي وقعت عليها كل الدول الأعضاء والخاص بالتعاون في مجال السياسة الخارجية والأمنية المشتركة. ولا تشتمل اتفاقيات المجموعات الأوروبية الثلاث على أي اتفاق للتعاون في هذا المجال وذلك إعمالا لنص المادة (11) من “معاهدة الاتحاد الأوروبي”؛ ويضم الأساس الثاني التعاون في مجال السياسة الخارجية والأمنية وحفظ السلام وتحقيق الديمقراطية وتقديم المساعدات للدول الأخري ونزع السلاح. الأساس الثالث وهو الأساس الذي يتعلق بالتعاون في مجالات “الشؤون الداخلية والعدل” بين الدول الأعضاء والذي نص علية في “معاهدة الاتحاد الأوروبي” التي وقعت عليها كل الدول الأعضاء. في إطار التعاون في مجال الشؤون الداخلية والعدل يشتمل هذا الأساس على التعاون بين أجهزة الشرطة في الدول الأعضاء وعلى التعاون في محاربة العنصرية وكراهية الأجانب ومحاربة الاتجار غير الشرعي بالمخدرات والسلاح ومحاربة الجريمة المنظمة ومحاربة الإرهاب والجرائم ضد الأطفال وتجارة البشر. معاهدة لشبونة دمجت كل الأسس الثلاثة في كيان واحد هو الاتحاد الأوروبي. عدد أعضاء الاتحاد الأوروبي بلغ اليوم 27 عضوا حوالي نصفهم مما كان يسمي سابقا بدول الكتلة الشرقية. وله علاقات ممتدة مع الكثير من الدول التي تقدمت بطلبات للانضمام له مثل كرواتيا كما تربطه اتفاقيات مع الدول والمجموعات مثل تركيا عبر اتفاق جمركي وكذلك مع حلف شمال الأطلسي وأمريكا وكندا وروسيا والصين ومع مجموعات مثل مجموعة الدول الأفريقية والكاريبية والباسيفيكية والآسيان ومجموعة الدول اللآتينية وغيره. إن نجاح الاتحاد الأوروبي في تجاوز مرارات الحرب الباردة وتداعيات الأزمات التي خلفها انهيار المعسكر الشرقي في دول البلقان وترسيخ قيم الديمقراطية في دول لم تعرف غير النظم الدكتاتورية وذلك لعدة قرون الترويج لمفهوم حقوق الإنسان والتأكيد على ثقافة الحوار وبنذ العنف وقبول الآخر وحل المشاكل بالوسائل السلمية وتعميق ثقافة السلام في نفوس المواطنين الأوروبيين كان له الأثر الأكبر في تجاوز أوروبا مرارات الحروب ومعانات النزاعات إلى التمتع بالسلام وما يرتبط به من تنمية واستقرار عادت بالأمن والرفاهية على إنسان القارة. إذا كانت أوروبا التي عرف تاريخها بأنه من أكثر تاريخ البشرية دموية قد نجحت في تحقيق السلام المستدام ليس فقط على مستوى الدول فقط بل تجاوزته إلى مستوى القارة بل حتى أصبحت لها قوات جاهزة لحفظ السلام في مناطق أخرى خارج أوروبا، وكل ذلك من خلال الاهتمام الكبير بموضوع بناء السلام الذي يمثل الضلع الثالث والأهم في مثلث العملية السلمية بجانب ضلعي صناعة وحفظ السلام، فلماذا لا نجتهد نحن في الاستفادة من تجارب الآخرين في ترسيخ قيم الحوار ونبذ العنف وقبول الآخر وحل المشاكل بالوسائل السلمية إن كانت هذه الطريق توصل إلى تنمية واستقرار ورفاهية وتعين على تحقيق السلام المستدام الذي نحن أحوج ما نكون عليه، وذلك تطبيقا لقوله صلى الله عليه وسلم “تعلموا العلم ولو في الصين” والعلم المعني هنا، كما يقول العلماء هو العلم النافع، وأي علم أنفع من علم يحفظ النفس والنسل ويحقق الأمن والاستقرار ويعين على إعمار الأرض وبسط العدل، وكذلك عملا بمقولة “الحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق الناس بها”. [email protected]