في بعض الحوارات التي شاركت فيها خلال العام الماضي على مستويات عدة حول مآلات ربيع العرب، دار نقاش حول أي الدول العربية ستتحول إلى ‘قاطرة' الربيع العربي؟ كان هذا السؤال يطرح على الأخص في دوائر صنع القرار في الغرب، بغية تحديد أي الدول العربية التي انتزعت حريتها ستكون أقرب إلى النموذج الديمقراطي الناجح، والأكثر تأثيراً في محيطه، حتى يتم تخصيصها بأكبر قدر من الاهتمام والدعم في تحولها الديمقراطي. ولأسباب معروفة، كان معظم المحاورين يرى أن مصر هي الأوفر حظاً، والأكثر قدرة على التأثير ودعم مسيرة التغيير، بسبب موقعها ووزنها ودورها التاريخي الرائد، إضافة إلى مؤسساتها الراسخة، فيما كان البعض يرى أن تونس أحق بهذا الدور بسبب سبقها في في الثورة ونجاحها المبكر في تجاوز صعوبات الانتقال، وبسبب تجانسها السكاني وإرثها الحضاري والإصلاحي. ولكن كاتب هذه السطور جادل بأن ليبيا هي الأكثر أهلية لكي تصبح قاطرة التحول الديمقراطي في العالم العربي، لعدة أسباب، أولها كان النجاح في الحفاظ على الوحدة الوطنية رغم الحرب، ورغم التباين القبلي والاثني والجهوي، وهو أمر حيوي بالنبسة لأي عملية ديمقراطية. كذلك فإن ليبيا قد تجاوزت أهم مهام الانتقال الديمقراطي، وهي انتهاج التسامح تجاه رموز النظام السابق، حيث تم التعامل بأريحية مع أنصار القذافي، بل إن كثيراً من قادة النظام انضموا إلى الثورة. ولم تقع اعتقالات وملاحقات إلا للقلة من عتاة مجرمي النظام السابق. وأخيراً فإن ليبيا قادرة على الاعتماد الذاتي في مجال الاقتصاد، فلا تحتاج لدعم خارجي لدعم ديمقراطيتها الوليدة. ومن نافلة القول أن الحاجة إلى الدعم الخارجي يقلل من أي نفوذ وتأثير محتمل للدولة المعنية، مهما كانت مؤهلاتها الأخرى. ورغم ما واجهته تجربة الانتقال الديمقراطي في ليبيا من تعثر، احتفظت بالتفاؤل تجاه هذه التجربة، وهو تفاؤل أكدته نتائج انتخابات يوليو الماضي، والقبول الواسع بها. وعلى الرغم من الاعتراضات التي صدرت على النظام الانتخابي، وظهور اتجاه في شرق ليبيا يدعو إلى اللامركزية وينتقد صيغة توزيع المقاعد على الأقاليم، إلا أن كل القوى السياسية قبلت بنتيجة الانتخابات، وبدا أن ليبيا بدأت بعد الانتخابات انطلاقتها نحو الاستقرار وإعادة البناء. ولكن الأحداث اللاحقة بدأت تثير قلقاً حقيقياً، بدءاً من تعثر محاولات رئيس الوزراء المرشح مصطفى أبوشاقور لتشكيل حكومة جديدة. وكان يمكن اعتبار هذه مسألة طبيعية في أي عملية ديمقراطية، خاصة إذا كانت وليدة، لولا طبيعة الاعتراض ووسيلته. فقد جاء الاعتراض على تشكيلة الحكومة لأنها لم تمثل مدناً ليبية شاركت بفعالية في الثورة، وخاصة مدينة الزاوية، حيث قامت مجموعة تدعي تمثيل الزاوية باقتحام مبنى البرلمان وإشاعة الفوضى فيه للتعبير عن احتجاجها، في تكرار لتهجم عنيف مشابه وقع على مقر المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي قبل الانتخابات. كلا الأمرين مزعج غاية الإزعاج، وذلك لعدة أسباب. أولها إشكالية المن والأذى على بقية الليبيين بما قدمه هذا الطرف أو ذاك لتحرير نفسه قبل غيره، في حين أن الثورة الليبية شارك فيها معظم الليبيين، كل بما قدر عليه. من العيب كذلك أن يطالب أحد بأجر لقاء جهاده الثوري، وإلا كان هذا شأن المرتزقة. ويستوي في هذا كون المطالب مكسباً شخصياً، كمن يطالب بتوظيف أو مال، أو جماعياً، مثل مطالب جهة معينة أو قبلية بحظ أكبر من غيرها في الحكم. فكل من جاهد فإنما كان جهاده لنفسه، لأن الله غني عن العالمين. وكذلك فإن الأوطان غنية عن المجاهدين لقاء أجر معلوم. وإنما كان هدف الثورات تحرير كل الناس، وإقامة نظام ديمقراطي عادل ينتخب فيه الشعب كله من يمثله، ويكون تولي المناصب العامة فيه بالجدارة، لا لخدمة تلك المدينة أو هذه القبيلة، فضلاً عن أن تكون لخدمة النفس. ثانياً إن أسلوب الابتزاز الذي كثر استخدمه من قبل الثوار المزعومين، إما باقتحام المباني الحكومية، أو تهديد الأمن وزعزعة الاستقرار لتحقيق أغراض معينة، هو أمر مستنكر حتى لو كانت الأهدف نبيلة، فما بالك إذا كان الأمر طلب مغانم. ويدخل في هذا الباب إصرار مجموعات كثيرة على الاستمرار في حمل السلاح واستخدامه في الصراعات السياسية أو ابتزاز الدولة والآخرين، وهو مسلك فقد مبرره بصورة أكبر بعد انتخاب مجلس وطني يجسد الشرعية وبعد أن قطعت الجهود الرامية إلى بناء جيش وطني وقوات أمن شرعية شوطاً طويلاً. وأخيرا، فإن التعامل مع الآخرين على أساس الولاءات الجهوية أو القبلية، حتى وإن لم يتوسل السلاح والابتزاز سبيلاً، هو مدخل للفرقة ونزع الشقاق. فإذا كان كل الليبيين متساوين أمام القانون، فلماذا تصر فئة معينة على أن تمثل في الحكومة دون غيرها، مع العلم بأنه لن يتسنى أبداً تمثيل كل الليبيين، أو كل مدنهم وقبائلهم، في أي حكومة؟ ولا بد هنا من التنويه بأن كل المجموعات الليبية لا تصر على فرض نفسها بهذه الطريقة. فقد سمعت على سبيل المثال قيادات ثوار مصراتة تؤكد بعد نجاح الثورة أنها لا تريد أن يكون للمدينة أي نصيب في مراكز السلطة الانتقالية، وتتبرع بنصيبها لغيرها. وعند نشوء إشكال تمثيل المنطقة الشرقية، تحرك ممثلو مناطق عدة في الزنتان والجبل الغربي، وأعلنوا تبرعهم بمقاعدهم لأهل الشرق حتى يزول الحرج. وهذه هي عين روح الثورة الليبية، وما أدى إلى نجاحها رغم كل التحديات، حيث كان التسابق على التضحيات، لا على المغانم. إن الثورة الليبية كانت عظيمة وطموحة في مقاصدها، لأنها استدعت من الشجاعة ونكران الذات حداً بعيداً، كونها قامت ضد نظام لم تكن له محظورات أو محاذير حين يتعلق الأمر بالسلطة. وقد ضرب الليبيون المثل أثناء الثورة في تماسكهم، وتضامنهم، وتقاسمهم الآلام والأعباء وكل ما يملكون. ولم نشهد خلال معظم مراحل الثورة، رغم الحديث عن الطبيعة القبلية للمجتمع الليبي، أي مظاهر كبرى للانقسامات والتشرذم، بل كان الخطاب دائماً وحدوياً ومتجرداً. ولهذا حققت الثورة كل هذه النجاحات، ووصلت إلى ما وصلت إليه. ولكننا بدأنا نشهد في الآونة الأخيرة أوجه سلوك وممارسات هي نقيض تلك القيم والمواقف النبيلة، حيث كثر الصراع على المغانم، وانحدر الخطاب منحدراً سحيقاً من التنابز بالألقاب، ودعوى الجاهلية وتعظمها بالآباء، بل وغير قليل من العنصرية في بعض الأحيان. وما نراه في بني وليد يلخص هذه المثالب. فلولا أن معظم مدن ليبيا أصبحت تتصرف ككانتونات مسلحة، بل كدول مستقلة، لما أمكن أن تقوم في بني وليد دولة للثورة المضادة. وإنما يكون الحل النهائي لهذه المشكلة بنزع سلاح كل الميليشيات، وبسط سلطة الدولة على كل أنحاء ليبيا، والمساواة بين جميع المواطنين، وترتيب مصالحة وطنية شاملة تنهي كل مظاهر الاستقطاب. هناك إذن حاجة لإنقاذ واستعادة الثورة الليبية، وإعلاء قيمها الأصيلة. ولن يتم هذا إلا بإحياء روح الإيثار والتضحية والوحدة التي قامت عليها، وذلك بأن تضرب قيادات المدن الكبرى والقوى الثورية التي لعبت الدور الأبرز في نجاح الثورة المثل في النأي بالنفس عن أي تكالب على زائل المغانم، أو تحزب وعصبية لهذه الجهة أو تلك، وأن تبادر الميليشات الكبرى بنزع أسلحتها، والمساهمة الفاعلة في بناء الجيش الوطني القادر على حماية الجميع، وهو مطلب لا يعني بالضرورة أن ينضم إليه كل من حمل السلاح. إننا ما زلنا نعتقد أن الثورة الليبية قادرة على أن تكون قاطرة كل الثورات العربية، بحكم إنجازاتها وإمكاناتها وسيرتها، ونطمح إلى أن تسارع بتبوؤ هذا الدور الرائد. وتكون البداية بالخروج من قمقم المدينة والقبيلة والميليشيا إلى سعة الانتماء الوطني الأوسع، وتوجيه الطاقات إلى بناء ليبيا قوية وقادرة، هي ملك لكل أبنائها، حتى يكون لها عطاء يفيض على المنطقة ثم على الإنسانية جمعاء.