عبدالله مكاوي [email protected] النظريات السياسية والتجارب الاقتصادية كالأشجار لا يعني أنَّ ثمارها الجيدة وشدة اخضرارها وامتداد ظلالها، أنها تصلح لكل زمان ومكان لذلك فهي تحتاج لإعداد التربة ومعرفة ظروف البيئة المحيطة لضمان نجاحها والاستفادة منها بأكبر قدر والسعي لتلافي قصورها وتطويرها، والمقصود الإستفادة من التجارب الإنسانية بوعي وتبصر من غير قبول مطلق او رفض مطلق لها. بالرجوع لتجربة سياسة التحرير الاقتصادي كان المرجو قبل تطبيقها دراسة المجتمع وأحواله وعلاقاته البينية وثقافته وتقاليده وطرقه الإنتاجية ودرجة تطوره ومدي قدرته وقابليته لتحمل تبعات تلك السياسة لوضع الاحتياطيات التي تعالج الإفرازات السلبية لتلك السياسة وهو الشئ الذي لم يحدث, فتم تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي اولاً ومن ثم بدأت المحاولات لتلافي قصورها ومعالجة مشاكلها وهي للأسف مشاكل إنشطارية كل مشكلة تحمل داخلها مجموعة مشاكل وهي بدورها تتوالد وتتناسل و قابلة للتفجر مع مرور الوقت والسبب في ذلك ان سياسة التحرير الاقتصادي راعت أبعاد محددة عند تطبيقها كالاستجابة لضغوط صناديق التمويل الخارجية والاستجداء لرضي دول الغرب الكافرة من اجل إعطائهم صكوك القبول لإعادة الثقة الغائبة بسبب الشرعية المفقودة وهي سبة ستلازم النظام حتي رحيله, او الاستهداء بتجارب ناجحة ولكن في ظروف مختلفة كلياً عن ظروف اقتصادنا المحلي الذي يعاني بدوره من ضعف الإنتاجية وتباطؤ النمو وتثقل كاهله الديون وفؤائدها المتصاعدة وغياب المنهجية في إدارته والعجز عن استخراج كل إمكانيات البلاد وتوظيفها لتنمية المواطن، ولكل ذلك كان اقتصادنا المحلي يحتاج ل(روشتة) او وصفة علاجية تراعي التدرج من مرحلة الي أخري لإخراجه من هذه الحالة بدلاً عن العملية الجراحية دون مخدر او الصعقة الكهربائية التي مثلتها سياسة التحرير الاقتصادي التي أفقدت الجسد الاقتصادي وعيه وجعلته هائماً في ملكوت الضبابية والغموض والتعقيد الشديد وخروجه نهائيا من دائرة الاستجابة لأي ضوابط إقتصادية, ومن اكبر المشاكل الناجمة عن تطبيق تلك السياسة السالفة الذكر هي زوال وإندثار الطبقة الوسطي بكل ما تحمله من ضمان للاستقرار المجتمعي ودورها كركيزة أساسية لبناء المجتمع المدني ومن ثم الدولة المدنية فقد تم إزالة هذه الطبقة وتحويل أفرادها الي ساحات الفقر لينضموا الي ركب الفقراء , بكل ما تعنيه حالة الفقر من ضغوط اقتصادية واجتماعية ونفسية وانعكاساتها السلبية علي الروابط الأسرية والتماسك المجتمعي والنتيجة انسحاب الفرد من المساهمة الايجابية في ساحات العمل العام بسبب تعاظم الهم الذاتي. والعلاج كأحد إفرازا ت سياسة التحرير الاقتصادي فاصدق ما يعبر عنه هو الدعاء المعبر عن نقصان الحيلة بجدارة اللهم استر الفقر بالعافية, فالمرض في ظل هذه الظروف يعني للغالبية العظمي من ضحايا هذه السياسة كشف الحال والدخول في حرج الدين والاستعانة بالأقرباء والأصدقاء وأحيانا حتي الغرباء لمواجهة تكاليف العلاج التي لا يقدر عليها إلا قلة قليلة ميسورة الحال او ذات نفوذ ومكانة أما البقية الباقية فهي واقعة بين سندان خدمات التامين الصحي بمظلتها الضيقة وضعف خدماتها و المطرقة الثقيلة التي لا ترحم للعيادات الخاصة والأطباء الاختصاصين او الذهاب للمستشفيات الحكومية التي تعاني من الضغط الشديد والشكوى والتذمر من قبل المواطنين في مجالسهم او مواصلاتهم فكل فرد يحمل تجربة مريرة له او لأحد أفراد أسرته مع تلك المستشفيات خاصة بعد أن ذهبت مجانية العلاج مع الريح في ظل سياسة التحرير الاقتصادي فبعضهم يشتكي من قصور وتقصير الأطباء والبعض يشتكي من التمييز في طبيعة الخدمات المقدمة حيث تعطي الأدوية للبعض ويطلب من الآخر إحضارها من الخارج والبعض يحكي عن إيقاف إجراءات العملية بسبب نقص الأموال وبعضهم يحكي عن غياب الأدوية المنقذة للحياة وآخرون يحكون عن تدهور البيئة وبعضهم يشتكي من ان المستشفيات تطلب من المريض شراء كل لوازم العلاج مهما كانت بسيطة او ضرورية مما يجعل المرافق في حالة ذهاب وإياب ورهبة وخوف طوال تواجده داخل المستشفي من نقص أمواله قبل اكتمال العلاج وكل ما ذكر أعلاه يظل مجموعة أقوال وطق حنك يضاف الي حالة المشافهة التي تسم المجتمع ولا تقدم أي دليل مادي يؤكد ذلك او ينفيه ولكنها في النهاية تخصم من رصيد الطب والأطباء وتعمل علي تآكل الثقة في الخدمات العلاجية المقدمة وهي رأس مال الرعاية الصحية، ولعلاج هذه الحالة نتقدم باقتراح متواضع يتمثل في أن تصدر وزارة الصحة الاتحادية دفاتر شهادات علاجية تعطي لكل مريض شهادة علاجية مثل اورنيك 15 الذي تصدره وزارة المالية وله صورة في سجلات المستشفي منذ دخول المريض المستشفي المحدد وتحمل هذه الشهادة ختم هذا المستشفي وتسلم للمريض بعد نهاية العلاج, وتحمل هذا الشهادة اوالمستند البيانات الأساسية كالاسم والعمر و مكان السكن وتاريخ الدخول والخروج الخ, بالإضافة الي اسم وتوقيع الطبيب المعالج والممرض المشرف ونوع المرض والعلاج وكمية الأدوية المستخدمة وأسعارها , واهمية هذه الوثيقة أنها تمكن وزارة الصحة من الرقابة الفعَّالة علي المستشفيات والاطباء و تحفظ حقوق جميع الأطراف كما أنها تشكل وسيلة لتقييم أداء الأطباء وبالتالي عدم اخذ البعض بجريرة البعض الآخر، وهي تشكل وسيلة تقلل من التجاوزات المالية او التلاعب بالأدوية وأيضا تشكل السجلات قاعدة بيانات هامة تمكن من رصد الامراض وأنواعها وحجمها وطبيعتها وكيفية وضع الحلول العلمية لاستئصالها والاهم تمكن المريض من اخذ حقوقه بعيدا عن العصبية المهنية التي تتستر أحيانا علي بعض الأخطاء التي تستوجب العقاب، وبذكر الأخطاء داخل الحقل الطبي او أي حقل آخر, فالأخطاء واردة وهي جزء من محدودية قدرات الإنسان وهي مدرسة يمكن التعلم منها متي ما فارقت المغالطة والغرور ومعلوم أن الأخطاء تترافق مع الذين يعملون وينجزون لذلك فهي تحتاج للتعامل معها بعقلانية والسرعة في معالجتها بعد تصنيفها هل هي ناتجة عن قصور في استخدام المعطيات المتاحة في اللحظة المحددة أي ناتجة عن اجتهاد وفي هذه الحالة يتم لفت النظر او التوجيه أما في حالة الأخطاء الناتجة عن الإهمال او السعي لتعظيم المنفعة الذاتية علي حساب الاعتبارات الطبية او غيرها، في هذه الحالة يجب الردع والحساب العسير والحسم, أما بخصوص التأمين الصحي فهي كتجربة لمعالجة إفرازات سياسة التحرير الاقتصادي فهي مقبولة نوعاً ما ولكن بعد تلافي عيوبها المتمثلة في قلة المراكز واكتظاظها بالمرضي واعتماد الغالبية العظمي منها علي الأطباء العموميين وتعقيدات الإجراءات لمقابلة الأطباء الاختصاصين بالإضافة لغياب معظم الأدوية الغالية من صيدلياتها وتعاونها المتذبذب مع الصيدليات الخارجية وهذه كلها صعوبات مقدور عليها إذا ما توفرت الإرادة خاصة مع توفر إيرادات كبيرة من خصومات المتعاونين وعدم احتياجهم للعلاج طوال الوقت. أما بخصوص العيادات الخاصة والأطباء الاختصاصين فسمعتهم الطبية جيدة وثقة المريض فيهم متوفرة بقدر كبير ولكنهم أصبحوا كالأباطرة في تعاملهم مع رعاياهم المرضي رقيقي الحال , حيث تجد المريض بين أياديهم ذليل وكسير يعاني من همّ الفاتورة وكيفية مقابلة التزاماتها أكثر من همّ العلاج وحتي لا يُفهم من ذلك أنني أتجني عليهم فيمكن الاحتكام لأي دارس اقتصاد يجري دراسة بسيطة في أي مدينة سودانية بصورة عشوائية يقارن فيها بين متوسط الدخل للعاملين بتلك المدينة وفاتورة مقابلة الطبيب داخل عيادته الخاصة بتلك المدينة لتتكشف الصورة وهول المأساة وبعد المسافة بين قلة الدخل وغلاء العلاج, وأصبحت المستشفيات الخاصة مصب تصل إليه كل فوائض إنتاج الجماهير (لو جاز التعبير) أي بعد أن كانت السلطة وحدها من يستغل المواطنين من اجل رفاهيتها وحدها، أصبح الأطباء الاختصاصيين شركاء في هذا الفعل وبالتالي تكون حلف غير معلن بين الطرفين يستفيد فيه الأطباء من سياسة تحرير العلاج في زيادة مداخليهم بمتوالية هندسية علي أن يتخلي الأطباء عن دورهم في المطالبة بعودة مجانية العلاج كهمّ مهني ومطلب أساسي يتسق مع إنسانية المهنة وكشريحة (طليعية) متقدمة علي الجماهير بما حازته من معارف علمية وخبرات عملية علي حسابها وبصفتها أكثر التصاقا بمعاناتها وبما أن هذا الدور يخص كل المهن والعاملين بها إلا أن للأطباء دور عاجل لأنه يتصل ببقاء الإنسان علي قيد الحياة, وللحقيقة مسؤولية الفقر وقلة الدخل ليست مسؤولية الأطباء فالفقر مسؤولية النظام الذي أدار الدولة بصورة عنترية وفي غياب كامل للوعي والعقل وحطم خلال هيجانه كل المشاريع الإنتاجية والخدمية متوجا كل ذلك بمغالطات وإنكار طفولي لواقع منهار ظاناً أن الشعارات البراقة والتمسح بالدين كفيل بإقناع الجماهير وتغيبها عن واقعها المرير الذي تعيشه.ولكن التخفيف من شدة الفقر ومراعاة ظروف الفقراء تمثل واجب لكل صاحب حس إنساني ووطني والمطلوب من هولاء الأطباء ليس إدخالهم في مكان ضيق او المساس بخاطر تراكم أموالهم او خدش كبريائهم المهني والمجتمعي ولكن بوصفهم أبناء لهذا المجتمع الذي لم يقصر في جانب تعليمهم وإبتعاثهم وإعطائهم لهذه المكانة الرفيعة ان يردوا الدين في شكل خدمات مجانية بصورة مؤسسة ومستمرة بعيدا عن المجهود الفردي الذي يقوم به البعض مشكورا عليه، وذلك بمساعدة مجالس المدن او الجمعيات الأهلية وذلك عبر تسجيل الأيتام والأرامل وأصحاب الحاجات الخاصة والمعدمين وإعطائهم بطاقات خاصة تمكنهم في حالة المرض من مقابلة هولاء الأطباء في عياداتهم في أيام محددة مجانا والتنسيق مع ديوان الزكاة او أي منظمات خيرية للإتصال بالصيدليات لتوفير الدواء بسعار رمزية لهذه الشريحة لان ذلك يصب في خانة إنسانية المهنة إضافة الي ان هذا المسلك يؤكد علي روح التكافل في المجتمع ويقلل من حالة الغبن ويدعم تماسك المجتمع والتواصل الرحيم بين مكوناته وينمي روح الانتماء للمجتمع والوطن بالنسبة لهذه الشرائح وأسرها وهي غاية تستحق التضحية لإدراكها، وأخيراً لابد من توجيه الشكر لكل الأطباء القابضين علي جمر إنسانية المهنة ولكل الجمعيات الخيرية واتحادات ومنظمات الأطباء وجمعياتهم داخل وخارج البلاد وهم يقومون بإعمال جليلة علي طول البلاد وعرضها يستقطعون من حر أموالهم وفضل أجازاتهم وراحتهم لتخفيف الضغط والعبء عن المرضي وأسرهم ولسان حالهم يقول وللأوطانِ في دمِ كل حرٍٍ يدٌ سلَفَت ودينٌ مُستَحق