مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المهدي : العلاقة التبادلية بين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني : رؤية مستقبلية
نشر في حريات يوم 14 - 01 - 2013

العلاقة التبادلية بين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني: رؤية مستقبلية – الإمام الصادق المهدي
بسم الله الرحمن الرحيم
حزب الأمة القومي
المركز العام- أم درمان
ندوة دور منظمات المجتمع المدني في التحول الديموقراطي
ورقة
العلاقة التبادلية بين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني: رؤية مستقبلية
الإمام الصادق المهدي
13/1/2013م
المقدمة:
أبدأ بتحرير المصطلحات وأقول: البشر يتكتلون في المجتمع على أسس أولية أي وراثية كالعشيرة، والملة؛ وأيديولوجية كالرابطة الفكرية؛ ومصلحية كالطبقة الاجتماعية.
الأحزاب السياسية هي آليات تعبر عن ذلك التكتل، وهي أدوات لمشاركة عضويتها فيها بهدف الوصول للسلطة أو معارضة السلطة القائمة لتحقيق مصلحة عضويتها وما تعتبره المصلحة العامة. وكل ما كان المجتمع تقليدياً كانت الأحزاب تعبر عن تكتلات أولية أي وراثية. وكلما كان المجتمع حديثاً كانت الأحزاب تعبر عن تكتلات أيديولوجية و/أو تكتلات مصلحية.
المجتمع المدني تكوين من منظمات طوعية تملأ المجال ما بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح معينة، وتدار ديموقراطياً. وهي تختلف عن الأحزاب السياسية لأنها لا تسعى للسلطة، وتختلف عن القبائل والطوائف الدينية لأنها لا تتكتل حول قاعدة وراثية، وتختلف عن النقابات لأنها لا ترتبط ولا تحصر عملها في مصلحة فئة مهنية معينة، وتختلف عن الشركات لأنها غير ربحية.
بصورة تجريدية فإن الحكومة المعاصرة يحكمها نموذجان: الأنموذج الديموقراطي وهو الذي يقوم على أربعة مبادئ: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون. وفيه يتم الفصل بين السلطات التنفيذية و التشريعية والقضائية وتكفل الحريات الأساسية وعلى رأسها حرية التنظيم، والتعبير، والتنقل، والتجمّع، وفي ظله تتاح الظروف المثلى لنشأة ونمو المجتمع المدني كما عرفناه سابقا.
النموذج الآخر هو الحكم الشمولي وفيه تسيطر الإدارة الحاكمة على السلطات الثلاث. وتجعل كافة أدوات العمل العام بصورة مباشرة أو غير مباشرة واجهات لإرادة الحكام. ههنا لا مجال لمجتمع مدني كما عرفناه. وفي الواقع المعاصر الآن فإن نظم الحكم الممارسة في الحضارة الغربية هي المثل الاقرب للحكومة الديموقراطية، أقول الأقرب لأن فيها تشويهات منحرفة عن الأنموذج المثالي كما عرفناه.
أما المرجعية المعاصرة للنظم الشمولية فهي التجربة الستالينية في اليسار والتجربة الفاشستية في اليمين، وكلاهما نمط للسيطرة الشمولية بحيث يمكن أن نقول إن الستالينية هي فاشستية اليسار. ونقول إن الفاشستية هي ستالينية اليمين.
اليكم في ما يلي أطروحتي عبر ثماني نقاط:
النقطة الأولى: العلاقة بين الأحزاب والمنظمات في الغرب:
المجتمع الغربي الحديث ديموقراطي ولكنها ديموقراطية تركز على الجانب السياسي بينما للمشاركة الحقيقية شروط لا تحققها التجربة بنفس القدر، شروط متعلقة بالجانب الاجتماعي وما فيه من حدة الفوارق الاقتصادية التي تشوه المشاركة. وشروط متعلقة بالديموقراطية البيئية وما يلزم من مراعاة سلامة البيئة. وشروط متعلقة بالحقوق الثقافية وما يلزم من توازن لمشاركة الجماعات الثقافية في المجتمع.
ومع هذه العيوب فإن الديموقراطية الغربية هي التي وفرت حاضنة لنشأة ونمو المجتمع المدني، وقد نما هذا المجتمع المدني و ترعرع في مجالات الاهتمام بالمرافعة والعمل المدني لمعالجة تلك العيوب فنشأت منظمات في مجالات حقوق الانسان، الدراسات، تفريخ الأفكار، البيئة الطبيعية، الخدمات الاجتماعية، التدريب، درء الكوارث، مراقبة محايدة للأنشطة السياسية كالانتخابات وهلم جرا. منظمات غير حكومية صار لها في المجتمعات الغربية وزن كبير في كل تلك المجالات. ففيما يتعلق بمجال الفكر والدراسة يوجد في العالم اليوم حوالي 5000 منظمة أغلبها في أمريكا وأوروبا، ففي أمريكا مثلا منظمة بروكنز متخصصة في العلوم الاجتماعية والاقتصاد. وكارنيقي متخصصة في السياسة والعلاقات الخارجية. وراند كوربريشن تركز على دراسات في كافة المجالات. وهنالك منظمات منتسبة لأحزاب سياسية مثل المؤسسة الجمهورية العالمية (IRI) والمؤسسة الوطنية للديمقراطية (NDI) والأولى تابعة للحزب الجمهوري والثانية للحزب الديمقراطي الأمريكيين. وهناك منظمات تمولها الحكومة مثل الصندوق الوطني للديموقراطية (NED)، ومنظمات منتسبة لبعض الشركات الكبرى مثل فورد فاونديشن.
من حيث التمويل فإن لبعض هذه المنظمات علاقات بالأحزاب السياسية، وبعضها يحظى بإعفاء ضريبي وما ينتج من أفكار يحظى باهتمام كبير، ففي أمريكا مثلا صدر عن مركز بحث يميني المشروع لقرن أمريكي جديد، تبنى أفكاره يمين الحزب الجمهوري وكان أساسا لسياسات الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن. وهناك مركز يساري وهو مركز التقدم الأمريكي نشأ فيه اقتراح صوابية أن يكون لأمريكا رئيس من أصل أفريقي . كما أن مؤسسة بروكنز في عام 1947م اقترحت فكرة خطة مارشال للأخذ بيد الاقتصاد الأوروبي بعد الحرب.
وفي أوربا كذلك نشأت منظمات مجتمع مدني بعضها منتسب لأحزاب سياسية مثل فريدريش إيبرت الألمانية وانتساببها للحزب الديموقراطي الاجتماعي، وبعضها مستقل مثل ماكس بلانك.
واكثر المنظمات استقلالاً أوروبية مثل منظمة العفو الدولية ومركزها في بريطانيا، والشفافية العالمية ومركزها في ألمانيا، وأطباء بلا حدود ومركزها فرنسا.
وبعض منظمات المجتمع المدني بعد أن أدى اهتمامها ببعض القضايا إلى ترويج كبير تجاوزت مجالها وكونت أحزاباً سياسية كحزب الخضر في عدد من البلدان الأوربية للدفاع عن سلامة البيئة الطبيعية خاصة ضد التلوث النووي وتلوث المناخ.
منظمات المجتمع المدني الغربية هذه صار لها وزن كبير داخل أقطارها وعالمياً، ونشرت ثقافة المجتمع المدني عالمياً بكل الوسائل المعنوية والمادية. وصار لثقافة المجتمع المدني وزن دولي كبير بحيث صارت في مجال الأسرة الدولية تعتبر القوة الثالثة أي بعد الدولة، والأمم المتحدة.
نستطيع أن نقول إن بعض منظمات المجتمع المدني أو المنظمات الطوعية أي غير الحكومية مستقل حقاً مثل الصليب الأحمر، والعفو الدولية، والشفافية الدولية، وأطباء بلا حدود. وبعضها مرتبط مباشرة بالتبشير الديني، وبعضها مخترق سياسياً، وبعضها مخترق أمنياً، لذلك لزمت الدراسة الموضوعية للتمييز في قائمة خضراء، وأخرى رمادية، وأخرى سوداء.
النقطة الثانية: الأحزاب السودانية
الأحزاب السياسية في بلادنا تنطوي على عيوب، وسوف أتناول ههنا ثلاثة مجموعات من الأحزاب.
المجموعة الأولى: الأحزاب التاريخية: هذه بعض الناس يسمونها الطائفية. الطائفية في المشرق تعني الفرق من سنة، وشيعة، ودروز وعلويين وصابئة وغيرها. وفي مصر تعني الاختلاف الديني من مسلمين وأقباط. في السودان التعبير استخدمته أحزاب القوى الحديثة والنظم الدكتاتورية للنيل منها. هذه الأحزاب في السودان نشأت بعد قيام مؤتمر الخريجين العام الذي بدأ كمنظمة مجتمع مدني ثم تطور فصار منبراً سياسياً جامعاً للخريجين. هؤلاء انقسموا إزاء مصير السودان أيصير مستقلاً أم متحداً مع مصر؟ وفي التطلع لعناصر من الخريجين تحالف الأنصار مع الفريق المنادي للاستقلال وكونوا حزب الأمة تحت شعار السودان للسودانيين.
وفي المقابل التمس الفريق الآخر تأييداً شعبياً بالتحالف مع الختمية، وعبر مراحل كونوا برعاية الرئيس محمد نجيب في القاهرة الحزب الوطني الاتحادي.
هذان الحزبان صارا يمثلان تحالفاً بين خريجين، وجماعة دينية، وطرق صوفية، وقبائل.
كان ينقص هذين الحزبين أمران:
الأول: استقطاب القوى الحديثة.
والثاني: مراعاة التوازن الإثني والجهوري.
وربما كان بإمكانهما التطور السياسي، مثلما حدث لحزب الأمة –مثلاً- فالهيئة البرلمانية لحزب الأمة في أوائل عهده كانت غالبيتها من زعامات عشائرية. ولكنها في مرحلة لاحقة في أواخر الستينات صارت غالبيتها من الخريجين. كما أن الحزب في البداية لم يهتم بالتوازن الجهوي، ولكنه بعد ذلك اهتم فانضمت إليه جبهة نهضة دارفور. ولكن هذه الفرصة للتطور أجهضت نتيجة للعوامل التي جعلت فترة استقلال السودان وطولها حتى الآن 57 عاماً، تحتل 46 عاماً منها نظم أوتقراطية.
المجموعة الثانية: أحزاب القوى الحديثة: وأهم هذه حزبان: الحزب الشيوعي، وحزب الاتجاه الإسلامي الذي تعددت أسماؤه.
القوى الحديثة من طلاب، وعمال، ومهنيين لم تكن كلها مسيسة، ولكن الأجزاء المسيسة منها انخرطت في الغالب في أحد هذين الاتجاهين.
الحزب الشيوعي، ولعدم وجود قوة شعبية معينة تسنده، ولأنه انطلق من مفاهيم طبقية غير متوافرة في الواقع الاجتماعي السوداني اهتم بتسييس الأنشطة الحديثة الطلابية والعمالية والنقابية والنسوية، وأية تنظيمات من المجتمع المدني.
واتخذ التنظيم الإسلامي الحديث نفس الأسلوب، فصار الحزبان يتعاركان عبر الأنشطة الحديثة الطالبية، النقابية، والنسوية، وحتى عبر منظمات المجتمع المدني، وبما أن المواجهة بينهما منذ البداية كانت صفرية، وبما أنهما أدركا أنهما لن يستطيعا تحقيق أهدافهما السياسية عبر الآلية الديمقراطية، فإنهما نقلا صراعهما إلى الساحة العسكرية، ووقف اليسار مع انقلاب 1969م، ودبر الحزب الإسلامي انقلاب يونيو 1989م. وفي الحالين أقاما نظما شمولية الأول بآليات ستالينية والثاني بآليات فاشستية.
كان إقحام القوات القوات المسلحة في المعترك السياسي خطيئة كبرى بدأها السيد عبد الله خليل لأنه قدر أنها ضرورية لحسم خلاف مع حزبه، ولتلافي مخاطر وطنية قدرها. ولأسباب متعلقة بتظلم الحزب الشيوعي من حرمانه من حقوقه السياسية، وبتمدد النشاط الناصري في السودان اندفعت عناصر يسارية نحو انقلاب مايو 1969م، وعندما وقع اندفع الحزب الشيوعي في تأييده، وحاول توظيفه لتصفية خصومه والتحكم في مصير البلاد على أساس نظام شمولي.
ولأسباب رأتها أقدمت الجبهة الإسلامية القومية على تدبير انقلاب يونيو 1989م، وأقامت نظاماً شمولياً استمر لأطول فترة حكم حتى الآن.
الانقلابات الثلاثة أكدت معنىً سوسيولوجياً معلوماً، وهو أن أية جهة تعتمد على جهة مسلحة لتحقيق أهدافها السياسية ستجد أن العناصر المسلحة لن تتعامل معهم بالندية، وهذا ما اكتشفه الذين دعموا الضباط الأحرار في مصر، ومؤسس البعث السيد ميشيل عفلق، ووثق له منيف الرزاز في كتاب “التجربة المرة”. في السودان بعد مدة وجيزة اعتقل الانقلابيون السيد عبد الله خليل، وكان مصير قيادة الحزب الشيوعي والجبهة الإسلامية القومية ما كان.
المجموعة الثالثة: الأحزاب المسلحة: وهي مجموعة أحزاب التظلم من الأحادية بأبعادها الدينية والإثنية، وهي الآن أحزاب حركة تحرير السودان، والعدل والمساواة، والعدالة والتحرير، وجبهة الشرق، والحركة الشعبية قطاع الشمال. هذه الأحزاب تمثل قوى اجتماعية لا شك ولديها قضايا وظلامات لا شك وتدعمها تشكيلات مسلحة.
النقطة الثالثة: القيود على العمل الحزبي:
النظام الحاكم منذ يونيو 1989م طبق شمولية صارمة عن طريقها حرم حرية التنظيم فحل الأحزاب واستبدل النقابات بتكوين جامع خاضع للحزب الحاكم، وسيطر على أجهزة الإعلام، وسيطر على مؤسسات الدولة، وسيطر على النظام الاقتصادي في البلاد، وذلك عبر سياسة التمكين، وعن طريقها سيس الإدارة الأهلية واخترق الطرق الصوفية. ودو مراجعة لهذا التمكين الشمولي دخل في اتفاقية السلام المسمى شامل، وفيها احتفظ لنفسه بالصوت الغالب تنفيذيا وتشريعيا وقضائيا، واشترط الإبقاء على معالم التمكين كافة إلى أن تستبدل إن لزم.
سمح النظام للأحزاب السياسية بالعمل، ولكن في مجال مقيد للغاية:
‌أ) القوات النظامية والخدمة المدنية تحت قيادات تابعة للحزب الحاكم.
‌ب) النشاط الاقتصادي تحت سيطرة سياسية جففت مصادر الأحزاب السياسية الأخرى واستقطبت الأنشطة الاقتصادية لصالح الحزب الحاكم عبر شركات تابعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة للحزب الحاكم أو لأجهزة سيطرة رسمية. وعبر محاباة لنشاط الموالين، ومجافاة لنشاط الآخرين.
‌ج) قانون تسجيل الأحزاب في صورته الأخيرة لسنة 2007م يخضع الأحزاب لمجلس شئون الأحزاب، وهو مجلس يعين رئيسه وأعضاءه رئيس الجمهورية، وهو رئيس الحزب الحاكم. وينص القانون على عدم جواز الأفراد الآتية صفاتهم الانضمام لعمل حزبي: القوات المسلحة، القضاء، القيادات العليا في الخدمة المدنية، والدبلوماسيون.وبماأن قيادة القوات المسلحة هي قيادة الحزب الحاكم فإن تبعية قيادات تلك المؤسسات للحزب الحاكم تحصيل حاصل.
وفي شروط تأسيس الأحزاب عدم تبعية تشكيلات عسكرية للحزب، ولكن هناك تشكيلات عسكرية تابعة للحزب الحاكم.
وقانون تكوين الأحزاب ينص على دعم حكومي للأحزاب كما نص على ذلك قانون الانتخابات على أن يدخل هذا الدعم في الميزانية العامة دون جدوى.
هذا معناه أن سياسة التمكين التي طبقت بصورة منهجية لتدمير الأحزاب السياسية لم تراجع، وقانون الأحزاب السياسية يفرض وصاية كاملة عبر قانون تسجيل الأحزاب على الأحزاب السياسية.
هذه الظروف تمنع التطور السياسي في البلاد، وبالتالي تطور الأحزاب السياسية، فالحزب الحاكم متمترس بالتمكين.أما أحزاب المجموعة الأولى أي التاريخية، والمجموعة الثانية أي الحديثة، فبموجب الأجهزة والقوانين تعمل في نطاق محدود للغاية ما يخنق التطور السياسي في البلاد.
النقطة الرابعة: القيود على عمل المنظمات:
النظم الشمولية تكون منظمات اسما هي منظمات مجتمع مدني، ولكنها فعلاً هي واجهات لعمل حكومي دعائي أو أمني، وبموجب اتفاقيات ثنائية تسمح لمنظمات تابعة للصليب الأحمر وللأمم المتحدة، ولكن فيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني فإنها تخضعها لقانون العمل الطوعي والإنساني لسنة 2006م. هذا القانون يخضع العمل الطوعي تماما للإرادة السياسية، وبالتالي للحزب الحاكم. فالمفوض يعينه الوزير، ومسجل المنظمات يعينه الوزير، وتميل المنظمة يكون عبروثيقة تحدد المصادر تجيزها المفوضية. والمسجل، وهو موظف لدى الوزير، عنده حق إلغاء تسجيل المنظمة. ولا تتلقى المنظمة أموالاً من الخارج أو من شخص أجنبي بالداخل إلا بموافقة الوزير، وهذا يعني أن مثل هذه الأموال لا يسمح بها إلا لمنظمات يرضاها الحزب الحاكم. كذلك لوزير المالية بموجب القانون، وبتوصية من الوزير إعفاء أية منظمة عن الجمارك أو الرسوم أو الضرائب، وهذه سلطة تمارس لصالح منظمات معينة.
ومع السيطرة السياسية على النشاط الاقتصادي فإن أية منظمة غير مرضيٍّ عليها لن تجد تمويلاً محلياً، اللهم إلا بعض المنظمات المعتمدة على وقفية، مثل وقفية السلمابي.
لذلك لجأت منظمات مجتمع مدني لتمويل خارجي، وهي مصدر يقع تحت سيطرة الوزير.
هذا معناه أن أي تطور لمجتمع مدني، مثل تطور المجتمع السياسي، مخنوق؛ وفي الحالين هذا بالضبط هو النظام شرق الأوسطي الذي هب في وجهه “الربيع العربي”، وهو نظام يقنن تحكم الحزب الحاكم في النشاط السياسي والنشاط المدني.
النقطة الخامسة: أعراض الاحتقان:
هذا الاحتقان هو المسئول عن التشويه الذي لحق بالعمل العام في السودان.
ففي غياب هياكل سياسية اجتماعية ومنظمات نيابية حقيقية وأحزاب سياسية فاعلة يلجأ الناس إلى انتماءاتهم الأولية كالعشيرة والجهة، وفي غياب فرص حقيقية للعمل السياسي الديمقراطي يلجأ الناس للعمل السري والعمل المسلح، وأي عمل مسلح ضد دولة سوف يلجيء أصحابه للاستعانة بجهات أجنبية، فتسليح وتموين شخص واحد دعك من فصيل مسلح كامل مكلف للغاية. والعمل الطوعي المدني مع حالة التجفيف الموجودة سوف يلجأ لتمويلات أجنبية سواء كانت حميدة أو خبيثة.
ولكن هذه الظواهر أعراض وليست أسباب، وعلينا ألا نقف عند الأعراض، بل نتطرق للأسباب. ما لم نفعل ذلك فإن الأعراض سوف تستمر بصورة أو أخرى. وربما أدى الاحتقان لمحاولات انقلابية. كذلك المحاولات الانقلابية أعراض توجب البحث عن الأسباب لإزالتها، لا سيما والمعلوم أن أية محاولات بالعنف لإقامة نظام جديد إن فشلت فسوف تعطي أجهزة الأمن مبرراً لمزيد من القمع. وإن نجحت فإن الذين نجحوا في الإطاحة بالنظام سوف يفرضون وصاية جديدة لن تسمح لا بالتطور السياسي ولا بحرية المجتمع المدني.
النقطة السادسة: مآلات محتملة:
ضعف المجتمع السياسي المعارض، والمجتمع المدني غير التابع للحكومة، وجعل بعض الغافلين يتحدثون عن ضعف المعارضة، ويعدون ذلك برداً وسلاماً للحزب الحاكم.
ولكن النظم ربما تهاوت من ثقل المشاكل التي خلقتها أخطاؤها السياسية مثلما حدث في تونس ومصر في وقت فيه كانت المعارضة المرئية في غاية الضعف.
إن جبهة التطلع لنظام جديد في السودان عريضة للغاية، مكونة من: استنزاف جبهات العمل المسلح، تراكم الحركة المطلبية، المعارضة السياسية والمدنية، تردي الحالة الاقتصادية، تفشي الفساد، نسبة العطالة والفقر، تطلعات داخل النظام، والحصار الخارجي.
هذه العوامل ربما أدت لانتفاضة غير محسوبة التوقيت وغير محسوبة النتائج، وربما أدت للتوافق على عمل استباقي ينتشل السودان من مصير مدمر إذا استمرت الأوضاع كما هي الآن، وينتشله من مغامرات محملة هي الأخرى بأسباب التدمير.
النقطة السابعة: العقد الاجتماعي المطلوب:
القيادة لا تعني حبس الرؤية في الواقع بل كما قال أحد الحكماء القيادة أن تلهم غيرك أن يأملوا، ويتعلموا، ويعملوا. ومن هذا المنطلق أقول:
النظام الجديد المنشود يتطلب هندسة اجتماعية كلية يؤدي لعقد اجتماعي جديد يقوم على:
‌أ) إصلاح حزبي بموجبه ترفع الوصاية الحزبية على مؤسسات الدولة والمجتمع. وتلتزم الأحزاب التاريخية بإصلاح يحقق المؤسسية والديمقراطية ويفتح المجال للقوى الحديثة. وبموجبه تتخلى أحزاب القوى الحديثة نهائيا عن الأشواق والوسائل الشمولية. وبموجبه تتحول الأحزاب الجديدة عن وسائل العنف وتكون لنفسها أحزابا مدنية أو تتحالف مع الأحزاب القائمة على أسس مشتركة.
‌ب) تحرر مؤسسات الدولة النظامية والمدنية من أية وصاية لتعمل وفق ضوابطها.
‌ج) تكفل حرية التنظيم لا سيما للعمل النقابي.
‌د) تكفل حرية التنظيم للمجتمع المدني لتتمدد في المساحة المدنية ما بين الأسرة والدولة باستثناء مجال الأحزاب والنقابات والشركات.
‌ه) مباديء تنموية تشبع الحاجة المادية والعدالة الاجتماعية، وتواجه مشاكل الفقر والعطالة بصورة حازمة.
‌و) أسس لتطوير الكيانات التقليدية الدينية والقبلية على أساس يحقق فيها المشاركة والمساءلة.
‌ز) معادلة توفق بين التأصيل والتحديث.
‌ح) التزام بعلاقات إقليمية ودولية تراعي المستجدات.
على أن يجسد هذا العقد الاجتماعي دستور تدخل في إبرامه القوى الاجتماعية كافة، ويتضمن الاستجابة للمطالب الجهوية المشروعة داخل وحدة السودان، ويبرم في مناخ تحميه الحريات العامة.
في هذا النهج نستفيد من كل تجاربنا ونرسم معالم نظام جديد يحقق السلام والتنمية والعدل والمساواة، وإلا فإن الاحتقان الحالي في حد ذاته ينذر بالويل والثبور، ومن نتائجه إفراز مغامرات مدمرة.
النقطة الثامنة: في جدوى اللا عنف:
بعض الناس يرون قبول الواقع، أو الإطاحة به بالقوة؛ هما الخياران الوحيدان المتاحان. كتب بيتر أكرمان وجاك دوفال كتاباً بعنوان: قرن من النزاع بلا عنف. في هذا الكتاب وثقا لعدد كبير من الحركات التي حققت نظاما جديداً عادلاً دون عنف. بدءاً من حركات في بدايةالقرن العشرين، إلى حركات في النصف الأخير منه. مثلاً: حركة التضامن التي قادها ليخ والنسا في بولندا، وأدت إلى قيام نظام جديد عن طريق العمل المدني الذي بدأ في 1981م، وما حدث في تشيلي فيما بعد؛ وما حدث في جنوب أفريقيا، وما أدى إليه من نظام جديد في جنوب أفريقيا.
وفي نهاية الكتاب بعد استعراض كثير من هذه الحركات قالا: خيار العمل بلا عنف ليس مجرد الخيار الأخلاقي، بل السبب أنهم أدركوا أن العمل عن طريق العنف إذا فشل فالنتائج مدمرة وإذا نجح فالنتائج نزاع على السلطة يلجأ لتصفية الحسابات بالعنف، فالدخول في دوامة العنف.
وقالا: “إن فرص نجاح نهج المقاومة بلا عنف يفشل عندما يحاول إدخال العنف في إستراتيجيته. عندما يهاجم النظام عسكرياً فإن فرص النظام أن يجد سنداً داخلياً وأن يستخدم القهر ضد خصومه تتضاعف”.
ونحن في السودان شهدنا جدوى العمل المدني في تحقيق استقلال البلاد، وفي أكتوبر 1964م، وفي رجب/أبريل 1985م، وإن أدى لتوافق على مشروع المستقبل فقد حدث ذلك كثيراً في جنوب أفريقيا وفي أسبانيا.
ختاماً
الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني كلها أدوات للعمل العام لا تقوم بأدوارها الحقيقية إلا في ظل نظام ديمقراطي، وفي ظل النظام الديمقراطي تملأ منظمات المجتمع المدني مجالاً خارج نطاق عمل الأحزاب، وإن كانت بعض منظمات المجتمع المدني قد تتمدد في المجال السياسي بما يجعلها تنافس العمل الحزبي، وبعض الأحزاب تتوجس خيفة من النشاط المدني، كما أن بعض الأحزاب قد تنشيء منظمات مجتمع مدني، ولكن إذا توافرت حرية التنظيم فسوف تنشأ علاقات تبادلية صحية بين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وفي حالة الحرمان من حرية التنظيم فالمصائب يجمعن المصابين، ما يهيء ظروفاً موضوعية لتعاون كل المحرومين من حرية التنظيم من أجل العمل المشترك لاستردادها. وإزاء الهدف القومي المنشود لنظام جديد يحقق حرية التنظيم في ظل دستور جديد فالعمل المشترك بين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وكافة أدوات العمل العام المحرومة واجب وطني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.