محمد عبد الماجد ضباطٌ في الجيش (كلمتهم) أقوى من (الرصاصة) محمود درويش كتب عن شهادته في مصر فقال: (صلاح جاهين هو الذي قال لنا، بطريقة لم يقلها غيره، إنّ ما فينا من مصر يكفي لنفرح…). وأنا أقول ما فينا من السودان يُوجب علينا الفرح ويفرضه، حتى ونحن في كنف المعاناة ما فينا من السودان يزيد ويفيض ويدعو لنفرح.. هذا السودان الغني بحبنا إليه نحن في هذا المقام لا تهمّنا ثرواته ولا سُلطاته ولا كنوزه وخيراته، بقدر ما يهمّنا حبنا إليه هكذا نحبه بدون مُبرّر (حسابي) أو رقم حساب. حب بدون (فاتورة) أو بدل وجبة!! ليس لنا في السودان حسبة تجارية غير الانتماء إليه، ليس عندنا له غير الحُب، وهذا عندنا كل شئ. ودائماً أقول إنّ ذلك لا يعني أننا بلا أخطاء، وليس نحن كما اعتدنا أن نُصوِّر أنفسنا ملائكة، عندنا الكثير من السلبيات والمشاكل التي أظهرتها هذه الحرب، وهي من إيجابياتها حين كشفت بعض عيوبنا كسودانيين. لكن الوطن برئٌ من هذا أنت تحب السودان، لأنّ ذكرياتك عنه هكذا مُحتشدة بشاي الصباح والموقد أو (اللدايات) التي تدفئ من يجلس حولها عندما "تولع أمك صاج الدوكة أو الزلابية في برد يلخم، تفرك يداك وتنفخ عليها بصوت يجعل أمك تلحقِّك بحبة زلابية ساخنة"، وكأنك لم تقصد من النفخ على يدك أكثر من ذلك. مليانين حَدّ الدفيق بهذا ألم تسمعوا من يقول عن شخصٍ بهذه الصفات (عينو مليانة)!! مليانين نحن بهذا الورع. ذكرياتنا عنك شَارِع بيتنا، وشُبّاك فاتح في الشارع وباب أمامه دائماً شفع بيلعبوا، بتشاكلوا ويتعاركوا ويتعامتوا ويرجعوا إلى بيوتهم إخواناً، لا يحملون شيئاً من روائش ذلك العراك. ودكان لا فيه طحنية ولا زيت ولا سُكّر ولا دقيق ولا عدس ولا رصيد، مع ذلك حسابك معه في آخر الشهر يجبرك على أن تَغيِّر الشارع!! سُوداننا هذا في قصة حب حملناها في ضلوعنا، وكتبناها في جواباتنا سراً ولم نرسل الخطاب، قصة حُب كتمناها في الجوف لا يعلم عنها شيئاً حتى الطرف الآخر، المحبوب الذي كتبت له لا يعرف عنها شيئاً، حباً واحتراماً وأدباً.. وصلنا درجة من الأدب والحياء أن لا نبوح بحبنا للطرف الذي نحب نموت به كمداً. في حكاوينا محجوب شريف (وعمق إحساسك في حريتك، تبقى ملامح في ذريتك)، لا يوجد انتماءٌ للحرية أكثر من هذه الاقتران، ولا نسب أعمق من هذا الارتباط، ولا ملامح للحرية أقوى من أن تظهر في الذرية.. وحمّيد (إذا كان العكار من طين كمان من طين بجي الرواق)، هذه وصفة علاج للوضع الحالي، وهاشم صديق (إلا خاف من بس ولكن)، هذا منتهى الدبلوماسية.. ومحمد المكي إبراهيم (من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر) وقد كان المكي كذلك، والدوش (وتمشي معاي وتروحي، وتمشي معاي وسط روحي، لا البلقاه بعرفني ولا بعرفك معاك روحي)، منتهى الضياع أو قل منتهى الانصهار والذوبان واللقيا، فكيف لا نحب هذا الوطن وننضح بحبه.. ونحن متل شُفّع سنة ثالثة بعد الحصة الرابعة نضج بالفرح والفوضى. وردي وعثمان حسين وإبراهيم عوض وكابلي وصلاح بن البادية ومحمد الأمين وابوعركي البخيت، ترمسة الشاي عندنا مليانة بذلك الحنين لو هبشتها ساكت تكب ليك (ليه بتسأل عني تاني بعد ما شلت الأماني). أنا بعتبر محجوب سراج أول شخص في العالم وهو الأخير الذي أجرى عملية فتح قلب بالكلمة. في لمتنا، في جلستنا، في مقيلنا، وفي الدافوري، منصور بشير تنقا وحمد والديبة ووالي الدين محمد عبد الله ومهند الطاهر وعبد الرؤوف يعقوب روفا.. وعشان المريخاب ما يزعلوا ونحن في مقام الوطن، هناك كمال عبد الوهاب وحامد بريمة وسامي عزالدين وفيصل العجب وقلق ورمضان عجب. هكذا ما لنا فيه غير ظننا الحسن، وهو عندنا يقين نقاتل فيه وبه وله وعليه. أنا مؤمن أنّ بذور البطيخ يمكن أن نخرجها من (الكلمة الطيبة)، هذه قناعاتي أحاول أن أثبتها في أشعة الشمس.. لاحظوا إنِّي أتحدث عن بذور البطيخ لا بذور عباد الشمس، أقصد ذلك وهذه مناسبة لأقول إنّ تسمية هذا النبات الجميل والمفيد والعابد باسم عباد الشمس فيه ظلمٌ وتجنٍ عليه وفيه خروج وتغابٍ منّا، لأنّ كل النباتات تعبد الله، بطريقتها وتسبح له (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) الرعد. ويقول تعالى:(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)) الإسراء. يعشقون السودان، لأنهم من قاموا، شربوا شاي اللبن (مُقنّن) ولحسوا حلة الحلبة، كسروا البصلة في كراع العنقريب ومصوا العضم ملاحقة لطايوق يستمتعوا بجرِّه شطفاً.. يخلوا اللحمة ويقعدوا يطاردوا في الطايوق. لعبوا في أراضيه، واتفنوا في ترابه وأصبحوا غُبشاً متل شوال الدقيق في الطاحونة.. عاموا في ترعه، وخاضوا في طينه واتقرحوا بذلك، غرقوا في البحر، وشرقوا بالمويه وطلعوا منها زي الشعرة من العجين. شالوا صينية الغداء، وكانوا بتجاروا للزيادة مثل حكم الراية وقت يكون عاوز يضبط ليه حالة تسلل. لعبوا شليل وشديّد وأم أربعة وتركوا في أي شارع فيه بصمة "للبِلِّي". وقفوا في الباب وقدموا العروس مع أمهاتهن ومسكوا في طرف التوب، ونزلوا في الدارة يتقافزون في حفلة من يعرفون ومن لا يعرفون. أكتب لكم بعد هذه المقدمة عن شعراء ومُلحِّنين ومُبدعين قدّمتهم القوات المسلحة فكانت كلمتهم أقوى من الرصاصة، بلغوا بالحرف ما لم تبلغ الدبابة. نحن في حاجة إلى ذلك الحنين وهذه شهادة في حق الجيش السوداني أنه كان مع طبيعة عمله ومع كل الدم والموت والقتل الذي يحدث في الحروب بطبيعة الحال، يقدم الكلمة الجميلة فينتصر لنا بها على كثير من الجراحات. من المُفارقات أنّ مؤسسة القوات المسلحة قدّمت في سجل الإبداع والأدب والفن ما لم تقدمه قطاعات أخرى في الطب والهندسة والإعلام والقانون. نعم، القوات المسلحة قدّمت لنا من الشعراء، ما لم يُقدِّمه اتحاد الأدباء، أو اتحاد الكُتّاب أو شعراء الأغنية، أقول ذلك مجازاً حتى لا تنتفخ أوداجكم اعتراضاً. لهذا، علينا أن ننظر إلى ذلك الجانب الإنساني والكلمة عبر التاريخ وفي كل القرون هي أخطر سلاح. أمريكا الآن تُقاتل عن نفسها بالكلمة والأدب والفنون والثقافة والتكنولوجيا، وتُصدِّر للآخرين الأسلحة النارية والكيميائية لكي يتحاربوا ويتصارعوا بها، بلغت في ذلك شأواً، أنها صارت تفعل ذلك بين أبناء الوطن الواحد!! كل الدول المتقدمة، السباق فيها سباق حضارات وثقافات لا سباق أسلحة وحروب. أمريكا تحارب في فيتنام، تحارب في أفغانستان، تحارب في الصومال، تحارب في العراق، تحارب في غزة، لكن لا يُمكن أن تُحارب في أمريكا!! حتى عدوّها تحاربه في الخارج، بينما تجعل أبناء الوطن الواحد يتحاربون في وطنهم!! وكذا هو الحال بالنسبة لكل الدول العظمى التي لا تدخل حرباً إلا إذا ضمنت أنها هي ليست طرفاً فيها (هل استوعبتم هذا)؟! أعود إلى فرسان الكلمة وضباط القوات المسلحة وأتحدث عن بعضهم. يروى أنّ أحد القادة السياسيين في أوروبا قدّم له ديواناً من الغزل، فتناوله بين اصبعين من أصابعه ساخراً، وسأل: كم طبع هذا الشاعر من هذا الديوان؟ فقيل له: بضعة آلاف من النسخ، فأجاب ساخراً: ولماذا لم يطبع منه نسختين، إحداهما له والثانية لفتاته. نحن الشعراء عندنا غير ما جاء في تلك الرواية التي تبدو طرفة. الشعراء عندنا تتوزّع كلماتهم مع الخُبز والسُّكّر والبُن والشاي واللبن وصباح الخير ومساء الخير والسلام عليكم. كان الشاعر عوض أحمد خليفة ضابطاً كبيراً في القوات المسلحة، شغل مناصب رفيعة في فترة حكومة مايو وكان من أشهر ضباط القوات المسلحة ليس في ذلك الوقت وحده، بل كان الأشهر في كل الأوقات. وهو كما كان مُبدعاً في كتابة الشعر ،كان فارساً في القوات المسلحة. لا أعرف كيف جمع عوض أحمد خليفة بين الرصاصة والكلمة، وكيف كان بتلك الرقة التي جعلته يكتب عشرة الأيام وربيع الدنيا وخاطرك الغالي لعثمان حسين ولكن بعادك طال لعبد الكريم الكابلي، كتب لزيدان إبراهيم وأبوعركي البخيت كلمات تجعل الحجارة سريعة الذوبان معها خليفة بهذه الرقة كان مقاتلاً جباراً، نال أعلى الشهادات والدورات في بريطانيا وروسيا. يا للعجب لندن الذي ذهب إليها للدراسة (الحربية)، كتب في إحدى قطاراتها (عُشرة الأيام ما بصح تنساها)، وفيها (واتبددت أحلام وين حُسن ظنك بي) إنِّي كلما أصدم بشخص أقول له (وين حُسن ظنك بي).. وهل هناك أجمل من هذا الظن؟ ولو كنت ناكراً للجميل مثلك كنت غفرت ليك أبوعركي البخيت يدخل (النكران) في هذه الأغنية في قزازة. ولما بنساك بشتهيك دي أغرب معادلة تجمع بين الذكرى والنسيان في ثلاث كلمات. الناس ديل عاوزين يقولوا شنو أكتر من كدا؟ أو خلوا لينا شنو نقوله؟ القوات المسلحة قدمت للمكتبة الإبداعية والغنائية (حبيبي جنني وحير بالي)، (ولو بعدي بيرضيه وعذابي بهنائه أصبر خليه الأيام ح توريه)، وعزيز دنياي.. إنِّي أتحدث عن الطاهر إبراهيم الشاعر والملحن الذي شكّل ثنائية مع إبراهيم عوض قدما لنا من خلالها الأغنية (الحركية) أو الأغنية الخفيفة. وردي كان يحب إبراهيم عوض وكان معجباً به لذلك غنى للطاهر إبراهيم (حرمت الحب والريدة). وردي في تاريخه الغنائي الكبير كل أعماله الغنائية من تلحينه إلا ثلاثة أعمال لحنها لوردي غيره. حيث كانت أولى أغاني وردي الخاصة غير أغنياته النوبية أغنية يا طير يا طائر المعروفة باسم (الحب والورود) وهي من كلمات إسماعيل حسن وألحان خليل أحمد. ومن كلمات إسماعيل حسن وألحان برعي محمد دفع الله غنى وردي (الوصية)، وللطاهر إبراهيم الكلمات واللحن غنى وردي (حرمت الحب والريدة). اللواء عبد الله أبوقرون كتب هو الآخر اغان مثل (السكر)، وهو الذي كتب لنجم الدين الفاضل قالوا قطعة سكر قلنا أحلى وأنضر.. عبد الله أبوقرون شكل ثنائية مع نجم الدين الفاضل وغنى له صلاح بن البادية ومعظم الفنانين الذين ظهروا بعد التسعينات، وكان أبوقرون يكتب ويلحن مثل الطاهر إبراهيم. وفي جانب التلحين أحدث ضباط سلاح الموسيقى نقلة لحنية كبيرة في السودان، ليس على مستوى أناشيد الجيش وجلالته وحدها، بل على مستوى الأغنية العاطفية أيضاً، وفي هذا فقد اعتبر الملحن وضابط الجيش عمر الشاعر من المجددين في التأليف الموسيقي والتلحين الغنائي. وثقافياً لا ينسى دور رجل مهم كان له دور كبير في رسم الخارطة الغنائية في فترة حكومة مايو وهو جعفر فضل المولى وهو أيضاً من رجال جيش. إذن قاتل أولئك الضباط بالكلمة واللحن، كما قاتلوا بالرصاصة وحقّقوا انتصارات في مجال الثقافة والأدب والفنون لا تقل عن الانتصارات التي كانوا يُحقِّقونها على ميادين القتال. نحن في حاجة للعودة إلى المسرح لرسم ابتسامة قادرة على أن تجمع التنوع الثقافي في السودان على شفاها. بالثقافة والأدب والفنون نبني هذا الوطن الذي هدّدته الحروب. الثقافة والفنون والأدب هي أسلحتنا ودروعنا أمام الغزو الثقافي وبها يمكننا أن نوقف الزحف الثقافي الخارجي الذي لا يعطينا في كثير من الأحيان منه غير الزبد. هويتنا في حاجة إلى حماية، فلقد عشنا في زمن حتى لون بشرتنا قصدوا أن يبدلوه، لقد أصبحنا نتنكر لسمرتنا وعيوننا العسلية. الحرب الحقيقية لا أقول الحرب القادمة هي حرب الثقافات. ….. متاريس صمد قرابة عامين، ورفض أن يغادر منزله في الحاج يوسف مربع 6 ودفع ثمن صموده أن أُصيب برصاصة في رجله، إنّه المهندس محمد يوسف والذي لم تزده الرصاصة إلّا ثباتاً وقُوةً. قرار سليم، اختيار تونس لمعسكر تحضيري للهلال قبل مواجهة الأهلي المصري. أتمنى أن يخوض الهلال مباريات إعدادية أمام أندية كبيرة في تونس مثل الأفريقي والنجم والملعب والبنزرتي. مُواجهة الترجي قد تتعذّر لانّه في طريق الهلال لو تأهّلا للدور المُقبل. ….. ترس أخير: نتلاقى في مساحات أرحب، أبقوا قُراب.