يشهد التقارب المتدرج بين القاهرةوطهران بعد 7 أكتوبر 2023 تحولاً لافتاً في سياق التوازنات الإقليمية المتغيرة، إذ دفعت تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة وما خلّفته من استقطابات حادة العديد من العواصم إلى إعادة النظر في تموضعاتها وتحالفاتها. هذا التقارب لا يأتي من فراغ، بل يعكس تحولات عميقة في فهم كل من مصر وإيران لدورهما الإقليمي ومجال حركتهما الاستراتيجية، خاصة في ظل تراجع نفوذ طهران النسبي في الساحات التي اعتُبرت تقليدياً ساحات نفوذها المباشر كلبنان وسورياوالعراق، مقابل سعي القاهرة إلى إعادة تثبيت موقعها كقوة توازن في محيط إقليمي مضطرب ومتداخل. فرضت حرب غزة مشهداً جديداً اختلط فيه الميداني بالرمزي، والدبلوماسي بالعسكري. ومصر، التي لطالما احتفظت بموقعها كوسيط عقلاني في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وجدت نفسها أمام تصاعد غير مسبوق للصراع، ومعه تراجع في فاعلية الوساطات التقليدية، ما دفعها إلى استكشاف مسارات جديدة للتأثير، لا تقتصر على العمل مع الحلفاء التقليديين فحسب، بل تمتد إلى القوى الإقليمية المؤثرة بما فيها إيران. في المقابل، وجدت طهران نفسها على هامش التفاعلات الميدانية، وسط تراجع قدرتها على استخدام أدواتها التقليدية في المنطقة. فحزب الله بات محكوماً بحسابات داخلية لبنانية، والحشد الشعبي في العراق لم يعد يمتلك نفس الهامش السابق، بينما تقلص الدور الإيراني في سوريا تحت ضغط التوازنات الدولية. من هنا، جاء إرسال طهران لإشارات سياسية هادئة تجاه القاهرة كتعبير عن رغبة استراتيجية في إعادة التموضع، وليس مجرد مناورة تكتيكية. الانفتاح المصري تجاه طهران لا ينبع من تغير في العقيدة السياسية أو انحراف عن الثوابت، بل من إدراك براغماتي لحجم التحديات وتعقيداتها، خاصة تلك المرتبطة بأمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي. وهو انفتاح محكوم بضوابط دقيقة، تتعلق بأمن الخليج ومصالح مصر الوطنية في مساحات النزاع العربي-الإيراني. الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني إلى القاهرة في يونيو 2025 كانت بمثابة خطوة رمزية ثقيلة الوزن، فتحت الباب أمام حوار منضبط لا يزال في بداياته، لكنه يعكس نوايا مشتركة لاستكشاف فرص التلاقي. هذا المسار لم يمر دون رصد دقيق من القوى الكبرى، خاصة الولاياتالمتحدة، التي تنظر بعين الحذر لأي تقارب قد يُفهم كتحوّل في ميزان الاصطفافات الإقليمية. أما إسرائيل، فعبّرت عن انزعاجها غير المعلن من هذا التطور، رغم قناعتها أن القاهرة – بحكم موقعها وثقلها – تحتفظ بخطوطها الحمراء، خاصة في ما يتعلق بدعم الفصائل الفلسطينية المسلحة أو تهديد أمن الملاحة. وفي المقابل، لوحظ من بعض العواصم الخليجية، لا سيما الرياض وأبوظبي، نوع من الترقب الإيجابي الحذر لهذا المسار، مع إدراك متزايد لأهمية تنويع أدوات التهدئة وضبط الإقليم عبر قنوات تواصل غير تقليدية، شرط التزام طهران بعدم توظيف هذه العلاقات للإضرار بالمنظومة الأمنية الخليجية. وبرغم هذا التقدّم الحذر، لا تزال العديد من العقبات قائمة، لاسيما ما يتعلق بالملف النووي الإيراني، والدور الإيراني في الساحات المتوترة كسوريا واليمن. كما أن المزاج السياسي في البلدين لا يزال مثقلاً بتراث من القطيعة وسوء الفهم. ومع ذلك، فإن حسابات المصالح لدى الطرفين بدأت تتجاوز الخطاب التقليدي، باتجاه صياغة نهج واقعي قد يسهم في إعادة إنتاج الدور الإقليمي لمصر من جهة، ويخفف من حدة الضغط السياسي على إيران من جهة أخرى. التقارب هنا لا يعني اصطفافاً جديداً، بقدر ما يعكس وعياً متبادلاً بأن معادلات ما بعد 7 أكتوبر تتطلب أدوات أكثر مرونة وشراكات أكثر تنوعاً. خاتمة القول وحين تتغير قواعد الاشتباك السياسي في الإقليم، تفرض الحكمة أن تتحرك الدول بحسّ استباقي لا بردود أفعال. والتقارب بين مصر وإيران اليوم، ليس انقلاباً على الماضي، بل هو استثمار واعٍ في ضرورات الحاضر وإشارات المستقبل، تحت أنظار ترقّب خليجي إيجابي يأمل أن يكون هذا المسار جسراً للتفاهم، لا ثغرة للنفوذ. د. عبدالله أحمد آل علي * باحث في الشؤون الأمنية