العالم الغربي - بعضه - ينظر الى العولمة على أنها النظام الذي يجب أن يخضع له العالم الآن وفي المستقبل ، أي أن العولمة داخلة في المستقبليات . ومن أكبر منظري العولمة المعاصرة صمويل هانتينجتون ، وهو من أكبر روادها وأنصارها يؤصل لها إنطلاقاً من التراث القديم للعالم الغربي . والمنهج الذي أسس به هانتينجتون للعولمة المعاصرة ينطلق فيه من الماضي ليخطط للمستقبل . إن النظام الاقتصادي المعاصر ، أحد عناصر العولمة المعاصرة التي فرضت على العالم منذ التسعينيات ، يتبنى نظرية أطلق عليها نظرية( 20-80 ). وتعني أنّ( 20%) من سكان العالم يكونون بالقوة أغنياء ، وان ( 80%) يفرض عليهم الفقر . هذا ما جاء في بعض إحصائيات المراكز المتخصصة . وإذا تناولنا هاتين الفقرتين تناولاً تحليلياً ، فإن الحديث عن سيادة العولمة وفرضها كنظام جديد يطابق معنى « الاستعمار» القديم من وجوه كثيرة أهمها لماذا تفرض على الناس ؟ وأين الحريات التي يرفعونها كشعارات ؟ ومن وجه آخر كيف يسوّغ للغرب وبخاصة أمريكا إعطاء أو فرض تراثهم وقيمهم على الآخرين وهو يتضمن إلغاء ثقافات الشعوب الأخرى أو تمويهها وتذويبها في التراث الغربي ؟ وهذا وجه من وجوه الظلم والاعتداء . ثم إن هانتينجتون هذا عندما نظر للعولمة وأسس لها إنما اعتمد على الماضي والقديم من التراث ومع ذلك لم يصنف ماضويّا أو تقليدياً أو يوصف بالجمود ، وفي المقابل يوصف الاسلام بالجمود وبالماضوية وبالتقليدية عندما يستند مفكروه على السيرة وتجارب السابقين ليس بقصد القراءة التاريخية للاشياء فحسب وإنما بقصد بناء المستقبليات على الاسس والثوابت الراسية في تاريخ الأمة المستقاة من المنابع الأصلية وهما الكتاب والسنة، وقد اشتهر هانتينجتون في الغرب عموماً كواحد من أفضل مفكري المستقبليات ولم يؤخذ عليه كونه استند على الماضي في التأسيس للمستقبل . ولقد ذكرنا في عجالة سابقة أن هذه العولمة هي عولمة الفقر وأنه قد قصد بها إفقار قطاعات كبيرة من شعوب العالم على ضوء نظرية( 20-80) وهذا يؤكد على ان أهداف العولمة تنطلق من منطلقات باطلة اريد بها تأكيد الهيمنة « الأمريكية « وإضعاف دول الشرق الأوسط و دول إفريقيا حتى تصبح منقادة لامريكا وحلفائها سهلة مستسلمة وهذا مبني على أن القوة المادية هي أساس القوة المعنوية . إن من لا يملك قوته لا يملك قراره . ثم إن من الأهداف الأساسية فخ العولمة تمكين إسرائيل وإبرازها كقوة كبرى في الشرق الأوسط ليس هناك من يضاهيها أو يقاومها أو يناهضها -ومراعاة مصالح إسرائيل من صميم مصالح أمريكا . وهذا كله شيء من المتغيرات الدولية الراهنة والتي بدأت بسقوط الخيار الماركسي في الدول الاشتراكية والأوروبية ، في عقد الثمانينيات والتي ما زالت تداعياتها حادثة ومتنامية حتى الآن والتي يجب على العالم كله ( والإسلامي ) خاصة استرجاعها واستيعابها وإدراك تأثيرها على ( النظام العالمي ) عامة . طبعاً لولا انهيار روسيا الاشتراكية كقطب ثانٍ لكانت هناك موازنة تامة للأوضاع الدولية ، ولما وجدت امريكا هذه المساحة لتلعب لعبتها هي ولما كانت هناك عولمة تفرض على العالم ولا نظام عالمي جديد ولا قامت حرب امريكا على العراق ولكن شاء الله أن يحصل ذلك كله وكان أمراً مقضياً .. وباسترجاع التاريخ القريب نجد أن الماركسية ظهرت كنقيض - غربي ل ( الليبرالية الرأسمالية ) - وظل النظام ( الماركسي الشمولي ) -مجرد خيار نظري يناهض الخيار ( الرأسمالي الليبرالي) - على أرض الحضارة الغربية . والسؤال الذي يهم أهل الإسلام في هذا الصدد هو أين المسلمون من هذه المتغيرات الدولية وأين حقوق الإسلام الواجبة رعايتها وصيانتها وهل صاروا مستسلمين حيال الغزو الفكري العارم- ولو افترضنا أن هناك استسلاماً من جهة الحكومات وحصل لهم تخدير أو حصل لهم قناعة أو حصل لهم خوف من الهجمة الغربية ? وأنا لا ألقي باللوم على حكومة من الحكومات في بلاد المسلمين إذا تصانعت لامريكا أو اجتهدت في مجاراة العولمة أو التماشي معها أو الاستنزال لفرضياتها ، بل استحسن ذلك يقيناً لأنه ربما كان من مقتضيات السياسة والدبلوماسية - ومن لم يصانع في كثير من الأمور لا يفلح في الإدارة السياسية ، كذلك استحسنه إذا كان من باب قوله تعالى : ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) ، وكذلك استحسنه من حيث إن التطبيق يختلف عن التنظير ، فالحاكم والسلطان في موقف تطبيقي وهو أصعب ما يكون . ثم إن الحاكم والسلطان هو الذي يتولى حرها وقرها فيعذر في بعض الانحرافات الخفيفة ونرجو أن لا يكون عليه من جناح إذا أخلص النية وكان مضطراً. إنما نلقي اللوم على الكتاب والمؤلفين وأصحاب الاقلام الجريئة التي لا تتردد في فقأ الدمامل أينما وجدتها - لأن واجب هؤلاء التوعية والتبصير لأن المفكرين يقومون بتثقيف الناس ونشر آرائهم خاصة في المستجدات التي لها مساس بعقائدهم وتراثهم . وهم يكتبون للناس وجهات نظرهم دون قيد ولا حجر عليهم وهو ما يعبر عنه بكفالة الحريات - حرية الصحافة وحرية الرأي وغيرها. وأما بالرجوع لمسألة تجويز المصانعة للحكام في اطار تعاملهم مع دول الصلف والاستكبار فتكون ضرورة شرعية في بعض الحالات لأننا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرنا بتقييم ووزن المنكر الذي ننهي عنه فإذا وجدناه- أي النهي - سيؤدي إلى فتنة أكبر مما كان عليه الحال قبل النهي أو سيؤدي الى الحاق الاذى بجماعة المسلمين - ففي هذه الحالة نتركه ، أي نترك النهي وليبق المنكر الذي هو أخف ضرراً ولتبق الفتنة نائمة .