وقائع تبدو مدهشة طبعت ملامحها على وجوه المتابعين لجولة المفاوضات بأديس ابابا، ففي الوقت الذي لاح فيه الانهيار المحاصر برائحة الدم القادم لا محالة، كان المفاوضون يمهرون بأحرفهم الاولى اتفاقية الحريات الاربع بين السودان وجنوب السودان.. توقيع جعل الخرطوم وجوبا تتنفسان الصعداء بعدما اكتملت حلقات الشر في مسلسل السلام الشارد قسراً بفعل التعنت عبر باب النفط.. تلك الخطوة أعتبرها الكثيرون نقلة غير متوقعة، تتجاوز المراحل المعتادة في تطبيع بالتدريج لعلاقات بلدين على شفا حرب، بفعل أجواء التوتر التي خلفتها اتهامات متبادلة بدعم المشكلات الداخلية، والاستيلاء غير المشروع على الموارد، ليكون الاتفاق بمثابة مفاجئة سعيدة للكثيرين.. الخرطوم اخفت انفعالها استحياء، بسبب خوفها من حزن جديد ربما يأتي في أعقاب كل فرح، فبعد كل سلام ك(نيفاشا)، تشتعل دارفور، أوهكذا تحكي التجربة.. تقييمات الخطوة تراوحت بين الترحيب والقبول الحذر، لكن نشاذا بدا في المشهد برفض الاتفاق، رغم كثافة الحجج.. عبد الله دينق نيال القيادي الجنوبي، والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية، برغم رضائه عن التوقيع الا أنه يرى أن الطرفين لم يأتيا بشئ غريب أو جديد ،وإنما تم بعث فكرة قديمة، وقال ل(الرأي العام) إن الحريات الاربع وردت في توصيات الحوار الجنوبي- الجنوبي ضمن (42) توصية للحوار. واستدرك لكن حكومة المؤتمر الوطني رفضته، وموافقتها حالياً على الاتفاق أمر جيد، فليس هناك من خيار للشعبين إلا التكامل والتعاون برأي دينق نيال، بينما يرى المحلل السياسي بروفيسور الساعوري أن مستقبل العلاقات بين الشمال والجنوب حتمي، غض النظر عن المشكلات الماثلة، وقال ل(الرأي العام) إن الحقائق والوقائع تقول إن ثمة اتصالا عضويا بين السودان وجنوب السودان اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، يؤيد ويعزز من أهمية التوصل لمثل اتفاق الحريات الاربع، الذي يعد دعماً جديداً للتواصل بين الدولتين، وإعتبر أن الرؤية الاستراتيجية تفرض فتح الابواب لا الانغلاق. تحليلات اخرى، ترى أن الايجابي في الاتفاق هو العامل النفسي وتأثيره على المواطن الجنوبي والشمالي، وهو ما اشار اليه مستشار رئيس الجمهورية سابقاً المهندس الشيخ بيش بقوله: (من حيث المبدأ فأن توقيت التوصل للاتفاق قبيل انقضاء فترة توفيق أوضاع مواطني الطرفين ، كان مناسباً) ونوه في حديثه مع (الرأي العام) إن الاتفاق عكس مدى جدية الطرفين في حل القضايا المعلقة، بما ينسحب على تهدئة النفوس وإيقاف التصعيد الاعلامي. وزاد(صحيح كل الجنوبيين أصولهم في الجنوب لكنهم مواطنون بالشمال، بالتالي فالاتفاق قلل من الآثار النفسية السلبية التي ترتبت على مقولة(ما عندك حق) وخلقت شعوراً ايجابيا، لأن الكثير من الامور ستحل بالحريات الاربع سواء للجنوبي في الشمال أوالشمالي في الجنوب ، ما يعني أن الطرفين حريصان على الاستقرار، ويمكن تطوير ذلك بالاتفاق الاقتصادي، مما يطمئن المواطنين). المحلل السياسي ايهاب محمد الحسن بدا مستاء، ولكن من تأخر الخطوة بحسب تعبيره .وقال ل(الرأي العام) إن الاتفاق ايجابي، لكنه بالاصل وكالمعتاد جاء متأخراً. فالحكومة دائماً تأتي أفكارها السليمة متأخرة بعد حدوث اشكاليات كثيرة، فالشمال والجنوب يجمعهما أكثر مما يفرقهما. واضاف إن النظامين في الخرطوم وجوبا عقب التصعيد الاعلامي ، أصبحا على المحك. فالشمال يعاني اقتصادياً ،والجنوب يرفل تحت البنية القبلية المستحكمة، ما يعني أن الاتفاق ربما يعد رد فعل للضغوط التي يواجهها الطرفان داخلياً.. وإعتبر القيادي بالتحرير والعدالة د. عبد الناصر سليم الاتفاق خطوة الى الامام في ترسيخ العلاقات عبر اعادة انتاج بناء حسن النوايا والثقة، مراهناً على ان الاتفاق ربما من شأنه التأثير في مرحلة قادمة لإعادة توحيد السودان. وقال ل(الرأي العام) إن الاتفاقية مهمة بالنسبة للجنوبيين لأن طردهم كان سيسبب اشكالية بالجنوب في ظل قلة الموارد هناك وارهاصات بمجاعة قادمة، والشمال أول المستفيدين، حيث يمثل الجنوبيون الموجودون فيه نواة لاعادة توحيد البلاد. في المقابل ثمة تقطيبة في جبين الخرطوم ، عبرت عنها تعاسة آخرين، تفاعلا مع الخطوة، واعتبروها مهدداً للأمن القومي السوداني، مهددين بحملة اعلامية تستهدف نقض الاتفاق ونسفه ،الامر الذي جعل ذاكرة الخرطوم تعود للوراء مستدعيةً حملة مماثلة نجحت في اجهاض اتفاق أديس ابابا المعروف ب(نيفاشا تو)، ما أطلق العنان لمخاوف المراقبين من نجاح ذات الحملة في وأد الاتفاق الوليد قبل أن يكمل(عشرين) يوماً، وتجاوز مرحلة الخطر بلقاء الرئيسين البشير وسلفا مطلع ابريل القادم.. اجهاض الاتفاق بحملة المرتابين دوما كما أسماهم أحدهم ، استبعده القيادي بالحركة أقوك ماكور، معتبراً أن الدولتين تجاوزتا النقطة الحرجة، وقال(الاتفاق يعد بداية طريق لبناء علاقات قوية أفضل مما كان، وليس هناك مجال للرجوع الى الوراء أو النكوص عنه ،خصوصاً وان المجتمع الدولي والاقليمي حريص على اطفاء البؤر الملتهبة ما يجعله محتفياً ومتمسكاً بالاتفاق أكثر من الطرفين). واضاف( نأمل ألا يكون حبراً على ورق ويصادف ترجمة عملية ، لتتأسس صفحة جديدة ، لأنه بمثابة خارطة طريق لتطوير العلاقات بين الدولتين).. بينما اعتبر دينق نيال أن توصيف الاتفاق بالمهدد للامن القومي موقفاً مبالغاً فيه، والقائل به لا يعي ما يقول، وقال( الاتفاق جاء بعد مناوشات ومناكفات وقتال -أي - كخلاصة تجربة). ونوه إلى أنه جاء نتاجا لتهديد الامن القومي بسبب الحرب المحتملة، وليس العكس، بالتالي لا يمكن تعطيل أو تقويض الاتفاق بين الشمال والجنوب. في المقابل، يرى د.عبد الناصر ان اتفاق الحريات يمكن أن يكون مهدداً للامن القومي حال تم توظيفه بشكل خاطئ، وقال(لا يمكن ان يكون مهدداً الا في حالة واحدة، وهي استخدامه لتغيير التركيبة الديموغرافية للسودان عامة لصالح الدم الافريقي، وأعتقد أن مفاوض الشمال لم يدع ذلك دون ضوابط، ما يرجح معه وجود اتفاقات اخرى غير معلنة حول جنوب كردفان والنيل الازرق).. مخاوف الرجل والحالة الاستثنائية التي تحدث عنها، عززها المحلل السياسي ايهاب الحسن مستنداً إلى الامكانيات المتوافرة للواقعين تحت تأثير نظرية المؤامرة. وقال(ذات «التيم» الاعلامي الذي قاد البلاد للانفصال بدعاوى الاسلمة والافرقة والعربنة، هو ذات التيم الذي يقود حالياً حملة توصيف الاتفاق باعتباره مهدداً للأمن القومي، رغم انهيار البلاد إقتصادياً، وهو من اكبر المهددات الامنية، ونفوذ ذلك التيار يمكن له التأثير على الرأي العام الذي يمكن ان يمارس ضغطاً على القيادة السياسية للتراجع عن الاتفاق كما حدث من قبل). بيد أن بروفيسور الساعوري يرفض امكانية اجهاض الاتفاق من زاوية استراتيجية ،ملمحاً أن التراجع السياسي عن الاتفاق لا يؤثر، لأن الاتفاق مطبق على أرض الواقع وقال(التفكير في تقويض الاتفاق ينطلق من النظر للاتفاق آنياً وليس استراتيجياً. فالجنوب مهما حدث ويحدث لابد من التفكير في عودته، كما أن الحكومة بتوقيعها (قدمت السبت) وان شعرت بعدم جدية الطرف الآخر أو لم تجد (الاحد) يمكن لها أن تقفز من مركب الإتفاق. وأضاف، إن الحريات الاربع موجودة دون توقيع على طول الشريط الحدودي والسافانا الغنية بحكم المصالح. فمواطنو الشمال يذهبون للجنوب في الصيف، وهم يحضرون شمالاً في الخريف، بالتالي لا امكانية لمثل هذا التفكير) فيما استنجد الشيخ بيش في رفض نسف اتفاق الحريات بالعودة لأصل التعامل في العلاقات الدولية. وقال(نصوص العلاقات الدولية، تخير المواطن دائماً حال انفصال الدول، بين الاستمرار في الوطن القديم أو الذهاب الى الجديد وهذه حقوق، ولا يجب استغلالها والمتاجرة عبرها في العمل المعارض، فالهدف الاساسي الذي تعمل له المنظمات حل كل المشاكل بين الدول المتجاورة بالوفاق وليس بالعنف، وأعتقد أن الاتفاق جعل البلدين يتجاوزان أكبر مشكلة، بالتالي لا داعي لتوظيف الامر في العمل المعارض وغير ذلك يعد نوعاً من المكابرة).. مراقبون يرون انه ربما تكون الخرطوم وجوبا نجحتا في تجاوز الحرائق المتبادلة، لكن حملة نسف الاتفاق تلك تؤذن بحرائق داخلية، وطبقاً لمحللين، فان الحرائق تظل واردة حال لم يتم حسم عدم توظيف الامن القومي في الصراع السياسي، خصوصاً القضايا الاستراتيجية، والنأي به عن ان يكون مقصلة للحريصين على الوطن وذنبهم اختلاف زاوية الرؤية أو ربما عدم السقوط في براثن نظرية المؤامرة والهواجس والارتياب.