تكاثرت اللعنات على السيد عبد الواحد محمد نور، أحد زعماء حركة تحرير السودان، بعد اعتماده فتح مكتب للحركة في إسرائيل في مارس الماضي. فقد وصف أحدهم الخبر ذاته بأنه «نعي». وتبرأ منه من تبرأ. ورماه بالخطيئة من وصفه بالخيانة الوطنية. وهو في نظر آخرين قد لف الإنشوطة حول عنقه أو احترق سياسياًً هابطاً إلى الفخ أو القاع أو المستنقع. وقال عنه أحدهم إنه مخلب قط صهيوني. فذكرنا آخر بكيف قال عبد الواحد ذات يوم إنه سيكون القط «ذاتو» من اجل دارفور. لم أجد راحة سياسية في ما قرأته من تنكيد لعبد الواحد برغم استنكاري المبدئي لخطوته سيئة الصيت. فقد بدا لي هذا التبكيت صادراً من ذرى أخلاقية لا مسوغ للمبكتين في احتلالها والحديث من أكبر خيولهم عندها. ولعن عبد الواحد إنقاذيون ومعارضون. ولا أزيد في قولي للإنقاذيين من لاعني الرجل: «إختشوا على عرضكم». ولي مع اللاعنين من جهة المعارضة حديث. فقد استهتر هؤلاء المعارضون (المعتمدون لدولة الإنقاذ) عن بكرة أبيهم بقيم وطنية مقدسة لم تبلغ مبلغ عبد الواحد ولكن (Close) قاب قوسين أو أدنى) كما يقول أهل الإنجليزية. فلم تفوت فئة من المعارضة الرسمية فرصة لعقاب الوطن (الذي لا يعاقب في عبارة غراء للسيد علي حمد إبراهيم) لم تهتبلها من فرط فش الغبينة من الإنقاذ. وفش الغبينة ممارسة قال السيد الصادق المهدي لدى عودته من «تهتدون» بأنها تخرب المدينة. وتمادى المعارضون في التسدي من الإنقاذ بعقاب الوطن حتى صاروا معارضين بلا حدود. وقد استفدت هذه العبارة من رفيقي العطبراوي الداخلابي محمد عجيب، الفتى المناضل البشوش رحمه الله. فقد رأى إن أولاد حلته السيدين بكري وجعفر محيي الدين بدآ في ممارسة الطب الشعبي فجاءة بعد طول انشغال بكمال الأجسام ورياضاتها. واجتمع عليهما الخلق: العميان شايل المكسر يطلبون علاجات بونها شاسع من عرق المحبة إلى دواء السرطان. فقال ود عجيب بحسه الفكه إن بكري وجعفر صارا أطباء بلا حدود. تلاشت الحدود بين الوطن والإنقاذ عند هذه المعارضة. فلم تراقب الله في المال الداخل عليها. فهي ما تزال تستدبر السائلين لها كشف الأجور التي كانت تدفعها الدولة الأمريكية لهيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي: مشروعيتها ونصابها. كما أنها لم تتب للشعب بعد عن دور التحريض و»الهتيفة» الذي لعبته قبل ضرب مصنع الشفاء وبعده. ويهون ذلك عندي كله بالنظر إلى رزالتهم في ممارسة نشاطهم المعارض للإنقاذ من مبنى سفارة السودان السابق بأسمرا بعد قطع العلاقات بين البلدين. فهذه إساءة بلقاء للوطن لأنها ليس من المعلوم بالضرورة في ممارسة المعارضين. بل ربما كسرت معارضتنا بهذه الشينة رقم القياس لسجل قينس في التبذل السياسي. ومعارضتنا لا تعاب بأكل المال من الغرباء. فدناءة (دناعة في عاميتنا) المعارضين وغير المعارضين للمال معروفة. وهي منقصة نشبت في حركاتنا السياسية لأنها لم توطن تمويل (على غرار توطين العلاج بالخارج) عملياتها السياسية بالاعتماد على مصادر العضوية اشتراكاً وأريحية واستثماراً. وسجل قبض المعارضة للمال المغرض حافل. فيكفي أن الإتحاديين وقفوا في نحو 1955 أمام المحكمة بتهمة استلام المال المتطفل وجرمتهم المحكمة. ثم كشفت الوثائق كيف التمس السيد يحي الفضلي، وزير الشئون الاجتماعية في الحكومة الوطنية الثانية، مالاً من بريطانيا لحرب الشيوعيين في النقابات. واعتذر الإنجليز ولم نقبل لهم عذراً. وتكشف الوثائق إن حزب الأمة، من الجهة الأخرى، قد طلب المال المتطفل مرات عديدة: من إسرائيل بواسطة السيد محمد أحمد عمر خلال انتخابات 1954 ومن بريطانيا عن طريق دائرة المهدي في عام 8591م. أما الإسلاميون فقد جاءهم المال الإسلامي خلال حربهم للشيوعيين في الستينات كما رجح ذلك الدكتور عبد الوهاب الأفندي في رسالته للدكتوراة. وأما الحركة الشعبية التي جعلت من المعارضة استثماراً كبيراً فقد استلمت المال المتطفل من القذافي وشركة لونرو فيما اتضح حتى تاريخه. وهذا كله كوم وتوسيخ سفارة السودان، وهي واجهة من واجهات السيادة، بالعمل المعارض نزولاً عند رغبة المضيف، كوم آخر. وسيبقى هذا الاستخدام الأخرق لرمز السيادة السودانية وصمة عار في جبين المعارضة حتى تنتابها شفافية مما تلهج به وتعتذر للشعب السوداني الذي فقع هذا العقاب للوطن (الذي لا يعاقب) مرارته. لقد سنت المعارضة سنة أن لا يكون لها حدود من فرط وحشتها في الوطن وذهاب عقلها ووجدانها من هول الإنقاذ. فلم يبتدع عبد الواحد سنة عقاب الوطن. فقد أصبحت هذه النفرة الفالتة في حرب الإنقاذ ثقافة يأخذ منها كل بمقدار. وكان مقدار عبد الواحد أن «يشظ» في ملابسات تطفل إسرائيل على مسألة دارفور مما هو معروف للجميع. وتمكنت هذه الثقافة من المعارضين حتى اندرجت في فكاهة السودانيين. فقد حكى لي الدكتور محمد جلال هاشم منذ سنوات حكاية أدروب والفلسطيني. وكانت حكومة مايو أسكنت جماعة فلسطينية بجهة سنكات. وحدث أن تشاجر الفلسطيني وأدروب وتلابعا وتغلب الفلسطيني على أدروب. فقال له أدروب بمكر: أبو عرب إسرائيل كيف؟» لم يزد عبد الواحد أن قال للإنقاذ: «يا كيزان! إسرائيل كيف؟» وكانت هذه فرصته ليتسدى في الوطن.