يذكر العالم ويشكر للوزير الفرنسي برنارد كوشنير سبقه في تأسيس، ضمن آخرين، منظمة أطباء بلا حدود، إنطلاقا من مبدأ التدخل الإنساني في مشكلات الآخرين نجدة لهم. ولكن يبدو أن القبول العالمي بفكرة تجاوز منظمة طوعية لحقيقة السيادة المرعية للبلدان قد أغراه لنقل التجربة للواقع السياسي المرهون بمحددات لا يمكن تخطيها. حيث أثار في تجربته الوزارية الحاضرة والماضية الكثير من الجدل، وأورث السياسة الفرنسية غير قليل من الحساسيات. ونذكر له في السودان جيدا، عندما كان وزيرا للشؤون الإنسانية في بلاده، كيف تسلل إلى جنوب بلادنا بدون تأشيرة دخول، وأساء عمدا للعلاقات بين الخرطوم وباريس. ونعلم كيف أغضب غيرنا من دول العالم بدعاوى التميز الأخلاقي الإنساني لحكومة الإشتراكيين الفرنسيين. وما يزال الآن، وهو وزير خارجية المحافظين، يجيد لعبة التفلت الدبلوماسي، ويقايس الأمور بمنهج لايقره عليه في كثير من الأحيان أحد غيره. فتحدث عن إيران حديثا أقلق باريس قبل طهران، وقال عن سوريا ما لم يقله مالك في الخمر، بل إن الخارجية الفرنسية رفضت التعليق على "تفهم" كوشنير للعملية العدوانية الإسرائيلية ضد سورية في العام الماضي. وجاء الجواب الفرنسي في 13 سبتمبر 2007، ردا على سؤال عن القاعدة القانونية التي برر على أساسها الوزير كوشنير، العملية العسكرية التي نفذتها مقاتلات إسرائيلية ضد سورية، إذ سئل كوشنير خلال مؤتمر صحفي مع نظيرته الإسرائيلية تسيبني ليفني في إسرائيل عن هذا الموضوع فقال، "لا جواب لدي إلا أن أقول إن إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن شعبها، وثمة اتفاقية بين الحكومة الإسرائيلية والجيش لحماية هذا الشعب ولا علم لدي بردة فعل أو بعدم وجودها". وفي اليوم التالي صرح الوزير الفرنسي حول الموضوع نفسه "إن كان صحيحا كما يعتقد الآن أنها (إسرائيل) قصفت شحنة أسلحة، كانت تنقل عبر سوريا إلى حزب الله يمكننا أن نفهم الدافع" وراء العملية، وأضاف "الجميع في لبنان يعلم أن شحنات كبيرة من الأسلحة تنقل عبر الحدود السورية" حسب تعبيره. ولهذا، لم يستسغ كوشنير اتفاق الدوحة من غير أن تكون له مبررات يسوقها للإنتقاص من شمول معالجة للأزمة اللبنانية. لقد تساءل عن الجذور التي لم تعالج في اتفاق الدوحة دون أن يوضح ما هي ويقترح كيفية معالجتها. وغابت عنه رجاحة الفكرة القطرية، وواقعيتها، التي جعلت من اتفاق لبنان في الدوحة خريطة طريق بين القلوب والعقول. فقطر تحاول مع كل أزمة عربية أن تبتعث فكرة محورية، لترصد من خلالها قضية أساسية تعين على الحل، دون أن تبتعد عن تيارات الخارج المترابطة بأجنداتها. لذا، فالحميمية العربية هي سمة الدبلوماسية القطرية ذات الحس القومي، والنزعة الإنسانية، والنزوع الأخلاقي الواضح بخيرية أهدافه المرصودة. إن الدوحة هدفت لأن تعالج بعض أزمة التواصل الإنساني بين الفرقاء اللبنانيين من منظور أخلاقي، التي تعتمد اعتمادا أساسيا على الحوار، عملا بمبدأ أنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. فالصراع السياسي اللبناني، الذي عالجه اتفاق الدوحة، هو في حقيقته صراع قلوب وعقول في مجتمع متعدد متنوع تحيط به أطماع ومؤامرات، من عالم تبدو فيه المصالح هي أساس كل تصرف. إن الصراع السياسي في لبنان ليس مجرد صراع حول السلطة بين المعارضة والموالاة،كما لا يمكن حصره في أنه معركة بين الداخل والخارج، مثلما لا يمكن توهم حله بمجرد وقف الإعتصامات في وسط بيروت، لكن جوهر الصراع هو في الحقيقة حول إعادة بناء الدولة اللبنانية الحديثة، القائمة على تأكيد الإعتراف بالتعدد الطائفي والديني والمذهبي، والمرتكزة على أسس النظام المدني الديمقراطي التعددي، وعلى التنمية المتوازنة بين كل أطراف البلاد، وذلك في ظل نظام للحكم يحقق هذه الأهداف. فتفاءل الكثيرون بأن تنتهي المفاوضات بين الفرقاء بتوقيع اتفاق نهائي يقرب الحل، لأن الشعب العربي كان يتطلع بلهفة وقلق إلى أن تتحقق وحدة اللبنانيين، ليس من منطلق العاطفة والرغبة وحدها، وإنما بالإعتماد على الوقائع الموضوعية التي جعلنا نتوقع نجاح المفاوضات، لأن القضايا العالقة كبيرة وشائكة، ومع ذلك فإن الراجح كان هو الاتفاق، الذي أكدته قوة الدفع الذاتي الكامنة في عملية التفاوض نفسها. وأيد الكثيرون وبإعجاب، خاصة في العالم العربي، الذي فتح النقاش على نطاق واسع في الدول الغربية، المعنية بأمر لبنان، وتعددت التحليلات والأجوبة، إلا أن السؤال، الذي يبدو أن وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير قد استكان إليه، هو جذور المشكلة السورية الإيرانية، وعلاقتهما بحزب الله وسلاحه، والذي يشكل تهديدا لأمن إسرائيل، بعدما أن تم ترسيخ هذا الفهم وتكريسه من طرف الآلة الإعلامية والسياسية الغربية. والسر الذي قد لا يعلمه كوشنير مطلقا أن القطريين قد استخدموا خارطة العاطفة العربية طريقا للقلب التي في الصدور، وإن لم يتركوا لإبصار العقل حجة إلا أبانوها، بلوغا لهدف الإتفاق. فبغض النظر عن خفة وسذاجة السؤال، فإن الارتكان إليه يعفي من إجهاد العقل لفهم ما يحدث داخل البيت العربي من دفع العاطفة لتجليات الحكمة، التي لا تقطع الطريق أمام فكر يسعى للكشف عن الأسباب الحقيقية وراء التوتر والاحتقان بين الفرقاء اللبنانيين، وكذا فهم التحولات التي لها جذور يعالجها التراضي، لا كما يريد طبيب التخدير بالبتر والخلع والتمويت. لقد أورث الإنحياز المطلق لإسرائيل كسلاً ذهنياً لا يرى حلولا لكل المشكلات العربية إلا بمعالجة بما يرتبط منها بأمن إسرائيل، فوجود سوريا مع أشقائها اللبنانيين هو قرب يهدد أمن إسرائيل، والضعط على دمشق في لبنان يمنعها من التمادي في مناصرة الفصائل الفلسطينية. والهجوم على إيران في لبنان مقصود به سلاح حزب الله، لا لأن المعادلة اللبنانية تختل به، ولكن لأنه إنتصر على غطرسة جيش لا يقهر. لهذا، فإن التصريحات المتعجلة، التي أطلقها كوشنير، والتي تلت التوقيع على إتفاق الدوحة، لا تشذ عن هذه القاعدة، بل يمكن اعتبارها كاشفة لهذه التبسيط، ودالة على هذا التسطيح لقضايا عربية شائكة ومعقدة ومتداخلة من هذا الحجم. فصارت حرب سوريا وإيران في لبنان تصدر عن روح الاختزال والتبسيط للمشكلة، وبالتالي تجاهل الفاعلين الحقيقيين للأزمة، الذين يجلسون في باريس، ولندن، وواشنطن، وتل أبيب، ببرود من لا تربطه عاطفة قلب أو عقل مع شعب لبنان العربي، الشيء الذي جعل إمكانية الحل في الدوحة لا كل هذه العواصم القواصم، التي تعلم كيف تساهم في تكريس واقع الخلاف القائم، وتوسيع الهوة بين طوائف لبنان المتساكنة بتراضي الجيرة والوفاء بمتلازماتها. إن الوقوف عند أزمة سلاح المقاومة بعينها، وامتدادات أصولها الإيرانية أو السورية، واعتبارها أصلا وسببا في كل ما حدث وما يحدث في لبنان، ليس هروبا إلى الأمام فقط وتورية للأسباب الحقيقية وراء الأزمة، بل يعتبر أيضا تضليلا وابتعادا عن التعاطي السليم مع هذه القضية، وسوء تدبير لتداعياتها، وفشل الحلول والمعالجات المقترحة لها. لذلك ليس غريبا أن ينحصر النقاش في الدوحة على فكرة التراضي والمساومة، والوصول إلى مقاربة سياسية أماطت اللثام عن أريحية العطاء، التي عضدت الأسس الدستورية الضامنة للعلاقة التراتبية بين القوى اللبنانية الحية.