إبان إنعقاد احدى جلسات مؤتمر الحركة الشعبية الثاني أخيراً بضاحية نياكري بجوبا، وقد خصصت تلك الجلسة فيما يبدو لمناقشة، وربما انتخاب قيادة الحركة الشعبية، كنت أرقب أحد أبواب قاعة الاجتماعات الذي درج على أن يتسلل عبره من انسرب اليهم الوسن والنعاس، واحياناً الغضب مما يدور في الداخل.. عندها خرج احد قادة الحركة فأسرعت اليه رغبة في الحصول على تصريح خاص، إلا أن تلك الرغبة تكسرت عند جدار ممانعته للحديث عن ما يجري داخل القاعة، فعلقت له وقتها على شيء خارجها، وبالتحديد علي صور سلفا كير الملصقة بكثافة بمقر المؤتمر مصحوبة بشعار «سلفا كير للتغيير» قائلاً: هل هناك احتمال بأن يطال التغيير سلفا كير نفسه؟ فرسم شيئاً أشبه بالابتسامة على وجهه قبل ان يقول: التغيير سنة الحياة، ولكن سلفا كير فرض وليس سنة. ---------------- وإن لم يفارق ذلك الشعار تلك الجدران على جاذبيته، فإنه لم يكن استثناء من بقية الشعارات السياسية الاخرى التي ظلت تتناسل على أيام الانتخابات ويرددها الهتيفة بمتعة مشبوهة وبمزاج عالى للإثارة والاستمالة السياسية، دونما اعتبار لمطابقة الشعار لواقع الحال. ومع تقاصر السقف الزمني للإنتخابات، بدأت بعض الأحزاب بتحديد شعاراتها التي ستلج بها الى المعترك الانتخابي وإن لم تفعل شيئاً يذكر بخلاف ذلك حتى الآن كي تبرهن على جاهزيتها، ومن ذلك ما قام به حزب الأمة القومي أخيراً في بورتسودان عندما قال رئيسه الصادق المهدي إن حزب الأمة سيدخل الانتخابات تحت شعار: «نحن لم نسفك دم بريء، ولم نأكل مال أحد». وبغض النظر عن صواب هذا الشعار الذي ربما لا يصمد كثيراً أمام أحاديث البعض عن الدماء التي سالت بسبب تسليح بعض القبائل العربية بدارفور، وفي أحداث المرتزقة العام 1976م التي كانت تحت القيادة السياسية المباشرة لصاحب الشعار، فإن هنالك تساؤلات يطرحها البعض هنا عن مدى فاعلية وتأثير الشعارات السياسية على الناخبين، وقدرتها في أن تحملهم لدعم مرشح دون آخر؟ وبنظرة ماضوية للإنتخابات السابقة التي أجريت في البلاد، فإننا نجد أن الناخبين لا يتأثرون كثيراً بالشعارات السياسية، بل لا يتأثرون حتى بالبرنامج الانتخابي ولا ينظرون اليه، حيث تتحكم في حملهم للتصويت لصالح مرشح معين دوافع اخرى طائفية أو جهوية او اجتماعية وما الى ذلك من الدوافع غير السياسية. وإذا كان ذلك في وقت فيه الانتماء الحزبي أقوى من الآن، وقبل ان يفقد الكثيرون الثقة في الاحزاب، والصدقية في شعاراتها المعطوبة، فيبقى من السهل تصور ما يلي ذلك، من تأثير الشعارات في مقبل الانتخابات التي انخفضت حماسة الناس لها كعملية ديمقراطية، كما انخفض الشعور بالولاء والانتماء الحزبي، ولم يرتفع إلا صوت الشعارات التي لهجت بها الألسن من جوبا والى بورتسودان. ويفرق استاذ علم النفس السياسي بجامعة الخرطوم د. محمد محجوب هارون بين نوعين من جمهور الناخبين وتختلف تبعاً لذلك درجة تأثرهم بالشعارات السياسية، ففي الحالة السودانية فإن غالبية الناخبين يأتون من خلفيات ريفية محدودة التعليم إن لم تكن أمية، وبالتالي فإن مثل هذا الجمهور لا تمثل لديه الشعارات الانتخابية أي تأثير ذي دلالة وربما تأثروا بالأناشيد والدلالات الحزبية أكثر من تأثرهم بالشعارات الانتخابية. لكن تأثير الشعار يكون أكثر وضوحاً حسب رأي هارون وسط الجمهور القادم من خلفيات حضرية ذات تعليم متوسط أو متقدم وتكوين تشكله ثقافة سياسية حديثة وإن لم يمثل الشعار حتى لهذه الفئة من الناخبين العامل الرئيسي في تحديد الاختيار الانتخابي لتداخل الاعتبارات الاجتماعية والشخصية. وتأثير الشعار كذلك يختلف من بلد لآخر وفيما يقل في دول العالم الثالث،فإن في الدول الغربية ذات الديمقراطية الراسخة والمجتمعات التي اكتملت داخلها دورة التحديث فإن ولاءات الناخبين للمرشحين والشعارات التي يرفعونها لها تأثير كبير. ويلحظ ان الشعارات هناك تتعلق بقضايا الشأن الوطني والمحلي مثل قضايا العلاج والتعليم والبيئة وسياسات الائتمان وحقوق الفئات الخاصة من المعاقين وحتى الشاذين، وتختزل الشعارات في هذه الحالة البرنامج الحزبي بصدق وتكون الى حد كبير مطابق لواقع الحال.. فهل يحدث ذات الشيء هنا في السودان؟ وللإجابة على مثل هذا التساؤل يقتضي الرجوع قليلاً الى الشعارات التي رفعتها القوى السياسية في فترات سابقة، فالحركة الإسلامية وفي سياق تقلبها الاسمي من الأخوان المسلمين الى الاتجاه الاسلامي ثم جبهة الميثاق الاسلامي الى الجبهة الاسلامية القومية وحتى المؤتمر الوطني، تدرجت شعاراتها تبعاً لذلك من «لا حكم إلا لله»، و«ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، «وأعدوا لهم»، و«الإسلام هو الخلاص»، و«هي لله هي لله». والحزب الشيوعي ومنذ أول انتخابات في العام 1953م عندما كان يرفع شعار «تحرير لا تعمير» فإن شعاراته اللاحقة لم تخرج من التحول الديمقراطي ووحدة الوطن والتنمية المتوازنة، ومن ذلك شعاره في انتخابات العام 1986م «الحزب الشيوعي طريق لتحقيق الديمقراطية والتنمية». وفيما رفع الحزب الاتحادي في انتخابات العام 1986م شعار «الجمهورية الإسلامية» الذي استطاع ان يصل بصعوبة الى الناخبين الذين كانوا يرددون وقتها هتافات «عاش أبوهاشم»، فإن منسوبي حزب الأمة كانوا يرددون وقتها «لن نصادق غير الصادق» و«الصادق أمل الأمة». وبالنظر الى كل تلك الشعارات التي رفعت في السابق، فإن هناك مسافة فاصلة بين تلك الشعارات وبين الواقع الذي لم يشهد بعد تجسيداً لشعارات الشيوعي في التعمير والتحول الديمقراطي، أو تجسيداً للجمهورية الاسلامية التي بشر بها الحزب الاتحادي، أو إنقاذاً للوطن كما بشرت الإنقاذ، وظل الشعار والثورة بعيدين عن أرض الواقع، وربما أبعد من شعارات «الصادق أمل الأمة» و«سلفا كير للتغيير»، بعد أن أشار واقع الحال الى أن الصادق وإن كان أملاً فهو لحزب الأمة أو بالاحرى بعضه، وليس لكل الامة كما أن سلفا كير ليس للتغيير بقدر ما هو لمواصلة المسيرة. ويبدو أن مجانية الشعارات حيث لا يكلف ذيوعها سوى خطاطين وبضعة أمتار من القماش وحناجر قوية لهتيفة ينتظرون موسم الانتخابات كي يمارسوا هواياتهم في ترديد الشعارات وإن لم يفهموا معناها، يبدو أن ذلك هو ما أثر بشكل أو آخر على صدقيتها وتأثيرها. وفي ذات السياق، يرى رئيس قسم علم النفس بجامعة النيلين د. أسامة الجيلي ان تأثير الشعار وفعاليته تعتمد على المجتمع المعني ومدى تفهم الناس لمعانيه ومدى وجود صاحب الشعار في دواخل الناس، إلاّ أن التأثير الكبير للشعار رهين بصدقيته ومخاطبته لحاجة الناس لا لأحلامهم. ومهما يكن من أمر، فإن الانتخابات القادمة ستشهد ربما الكثير من الشعارات وإن كانت بهدف الاستهلاك السياسي مثل «لا قداسة مع السياسة»، و«لا زعامة للقدامى»، رغم ان القدامى ما زالوا يحكمون أحزابهم منذ أربعة عقود أو يزيد، ولكن من المؤكد ان ذات الانتخابات ستشهد ميلاداً لشعارات إنتخابية ينخفض فيها سقف المواطنة وترتفع فيها أسقف شعارات التغيير والتجديد خاصة المتعلقة بالتهميش، وربما التقوى والصلاح وما الى ذلك من الشعارات التي مهما كان عطبها فيبدو أن لا غنى عنها في الإنتخابات القادمة، لأن الإنتخابات بدون «بهار» الشعارات ستكون كالفرح من غير زغرودة.