ج12) الحياة التي رأيتها وأراها في ودعة تتطور.. الشاعر الروسي الكبير تفيشنكو ويكتب شيئاً معبراً عن هذه الحالة في قصيدة «العودة» إلى قريته «زيما». «كلّما تقدم العُمر بنا.. أصبحنا أكثر شرفاً.. هذا شيء.. وهذه التغيرات التي أراها هنا.. تتسق والتغيرات التي حدثت لي.. تماماً كما يتسق اللفظ والمعنى..». اللغة في «ودعة» تغيرت بالسفر إلى العالم وسفر العالم إليهم.. والحياة تطورت وتتطور كل يوم.. المقاهي الآن تقدم المشروبات الباردة المفبركة في قوارير.. الهواتف المنقولة تسرح مع حركة الناس.. فوضى القتال بين حاملي السلاح والحكومة والجنجويد والمنفلتين تهين الناس إهانة لم يبلغوا مثلها في تاريخ دارفور كله وتعرض حياة كل الناس للإهدار.. لا مجال مطلقاً للكلام عن التوقعات، والانسراح في الماضي يفقد جدواه.. «ودعة» ودارفور والسودان كلهم ما بين حماية الله وأكفاف العفاريت، والله تعالى هو الحاكم وحده. ج13) اللغة التي استعملتها لا ترتبط بدارفور مطلقاً.. في الروايات والقصص القصيرة التي كتبتها من 1969م وحتى 1978م هي لغة الأرياف في الارض القوز من شرق دارفور إلى حدود الأبيض شرقاً.. وهذه اللغة تأثرت بمفردات وتحورات في اللغات السودانية النوبية والتشادية منذ القرن الرابع عشر الميلادي.. وبعد 1977م كان اولاد كباشي يستعملون لغة تتقارب مع لغة الوسط السوداني لأن إحتكاكهم بالعاصمة صار بيناً..واستطيع ان اشهد بأن اللغة التي يستعملها ابطال رواية (وبال في كليمندو)، 7991م، والقصص القصيرة التي كتبتها بعد 1987م هي لغة عدّلها اصحابها في حياتهم اليومية في «ودعة» ذاتها نتيجة لمفعول السفر في العالم وسفر العالم إليهم.. والذي يعنيني هو ان السرد يتحرى بلاغة الفصيح في اغلب الاحوال بينما يتحرى الحوار والجدل النفسي الداخلي بلاغة العامية. ج14و15) نحن «أنصار» نقرأ الراتب ونتقيد بالسلوك الديني، كما شدّد على احيائه في نفوس الناس مهدينا وخليفته.. في أولى ايامي قبل الجامعة ربما صوت لحزب الأمة.. في الحياة الجامعية كنت اعطي صوتي لجبهة الهيئات الاسلامية في مقابل تجمع اليساريين.. عندما إنحاز السيد الصادق المهدي إلى المنادين بإلغاء قوانين الشريعة التي صيغت لنميري، بدلاً من تنقيحها، صوّت للجبهة الاسلامية القومية عام 1986م.. الآن انا تلميذ للبروفيسور جعفر شيخ ادريس، انادي مثالياً بالاحيائية الاسلامية وانتقد اخطاء الانقاذيين وخصومهم السياسيين في اليمين واليسار، وأقول معه: الحق أولى ان يتبع دون سواه. ج16) لقد كلفت برئاسة اللجنة التنفيذية لإتحاد الكتاب السودانيين في جلستين اجرائيتين.. كل اللجنة الحالية متحمسة نحو تذويب الحواجز ما بين اتحادات وروابط الكتاب الثلاث والسعي نحو الوصول إلى الاتحاد العام للكتاب السودانيين.. فإذا استجابت الروابط والاتحادات الاخرى لهذا المسعى ومدّت الحكومة واجهزتها المعنية يداً وتفهماً واسهم المجتمع المدني السوداني كله في هذا الجهد، رفعاً من شأن الفعالية الثقافية السودانية، أظننا بإذن الله سنصل إلى تفعيل التنظيم القومي الشامل الذي نطمح كلنا إلى بلوغه. ج17و18) لن اقيم عملي لكنني اعتقد بأن النضج الفني والمعنوي في رواياتي بعد 1980م والقصص القصيرة أرفع مما هو في الروايات الاربع التي كتبت بين 8691و1973م.. لكن قيام كل رواية وكل قصة قصيرة بسد «فجوتها» الخاصة بها في المشروع الابداعي كله يجعلها حاجة لا غنى عن استيعابها حتى ولو كانت متواضعة فنياً ومعنوياً.. وهذا يجب الا يعني بأن أي قارئ لي يلزم له ان يطلع على كل الاعمال.. فكل قطعة من هذا الانتاج تنبني ايضاً على الافصاح الفردي عن مؤداها في حدود ايحاءاتها. 19) لقد اسهمت في مقالاتي وحواراتي ومشاركاتي الشفهية عن آرائي النقدية حول عملي وبعض عمل الآخرين وعما اطلع عليه من الانتاج الابداعي العالمي.. ولا استطيع ان اقول بأن آرائي تتطابق مع المنظرين للسودانوية أو لابادماك أو للغابة والصحراء.. في هذا يشد من عضدي الرأي الذي نقله عن النور عثمان أبكر المرحوم عمر خليل عبد الرحمن شوش في العدد الخاص بي من ملحق «الصحافة» الاسبوعي الذي نظمه محمد الربيع محمد صالح عام 2001م حينما لم ينسباني لمدرسة ما.. 20) أنا اروج بشدة لاستمداد الثقافة السودانية قوة دفعها الاساسي من الشام ومصر بعد ادخال المطابع العربية في القرن التاسع عشر.. لهذا ليس هنالك أي مجال لرفض تلمذة السودانيين على المصريين وهم الذين كانوا يمدوننا مع الشوام بكتب التراث اللغوي والادبي والمعرفي كله المقروء باللغة العربية.. الذي قلته هو ان التجريب الابداعي السردي المصري والشامي معاً لم يكن بمستوى الجودة التي للاطلسيين على جانبي المحيط.. ولهذا، فمن استطاع الاطلاع على الآداب العالمية بلغة اطلسية أو آسيوية يتعرف على نماذج إبداعية متقدمة تماماً على الابداع العربي القادم من الشام ومصر.. هذا الوضع حاولت شرحه لأن ابوبكر خالد، وملكة الدار محمد، وخليل عبد الله الحاج، يرحمهم الله وآخرين، كانوا محصورين في التجريب العربي ولم يتعرفوا إلا على القليل من الابداع العالمي الذي ترجم الى العربية. في الشطر الثاني من السؤال، أرى ان الذاتية السودانية تتركب من مكونات آسيوية وافريقية.. فالمسلم يضع الدين في اولوياته دون اهتمام يذكر بسحنته أو لغته أو سلالته أو مسقط رأسه.. ولما كان السؤال يتوجه لي بالذات فإنني اعتقد بأن الذي كنت ارفضه ولا ازال هما العروبية والافرقانيه في معانيهما العرقية والعنصرية.. أما ما عدا ذلك، فأظن ان التسامح الديني في الاسلام والنصرانية غير الصليبية يتناسب تماماً مع سودانيتي.. أنا اكتب بالعربية لأن ثقافتي (لا عرقيتي) عربية.. وتعبان لو ليونق كتب بالانجليزية لأن جنوب السودان تأهل بعض مثقفيه على الثقافة الافرو - أطلسية.. لكننا نتآخي في السودانية كرغبة في التعايش تبني على ترسب تاريخ واعراف وتقاليد تميز السودانيين كشعب ودولة عمن لا تلزمهم الجنسية السودانية.. إن افريقيتي مختلفة عن افريقية مبدعي السرد في شمال افريقيا لأن سلالتي ولغتي العربية توغلت في الجسد الافريقي وتشبعت بمكوناته ومفرداته.