من الأعراف الاكاديمية الراسخة ، اعتزاز الطلاب بجامعاتهم وشعورهم بفخر الانتماء اليها ،والثقة بالنفس في مقدرات خريجيها. ولا أتصور تخرج طلاب من جامعة لا يشرفهم الانتماء اليها. هذا ما لمسته من كرة الثلج المتدحرجة والمعروفة في أجهزة الاعلام هذه الأيام ،باسم مشكلة طلاب (جامعة بحري). صحيح ان المشكلة هي جزء من أزمة أخرى سببها الانفصال، وما ترتب عليه من تداعيات ومشكلات قانونية وادارية. ولكن من الواضح ان متخذي القرار لم يضعوا الحلول المناسبة لما يطرأ من تداعيات الانفصال، وتركوا القضايا المعلقة لتقضي في أمرها الظروف وتطورات الاحداث. وتقودني مشكلة طلاب جامعة بحري الى استكشاف جملة من المشكلات التي أفرزتها هذه التجربة المريرة. الملمح الاول هو الجرأة في تأسيس الجامعات حتى ان إحدى الجامعات الجديدة والقائمة اليوم ،كان أهم قرار أصدرته هو استعدادها لقبول الدفعة الأولى من الطلاب لعامها الجديد، أو فلنقل في عيد ميلادها الأول .ويومها كتبت متعجبا من ذلك الاعلان لأن الأصل في انشاء الجامعات إجراء العديد من الدراسات والحصول على الموافقات السيادية والسياسية والتعليمية والبحثية، ثم يلي ذلك الشروع في تأسيس المقر وتحديد الكليات التي ستبدأ بها الجامعة ،ويفضل أن تبدأ بكلية واحدة حتى تكتسب إسما ولا يطلق عليها جامعة أبدا ولا تنال هذا الشرف حتى تحمل لقب كلية جامعية سنين عددا .ويشمل التأسيس التوافق على المنهج وتكوين الأقسام وتحديد فلسفة المخرجات ومتطلبات سوق العمل.واذا نجحت الكلية الوليدة فعلا لا قولا في كل ذلك ،أمكن النظر في تحويلها الى فرع لاحدى الجامعات العريقة حتى تتشرب من إرثها الأكاديمي قبل أن تتحول الى جامعة كاملة الاعتراف بين بني جلدتها. وهذا هو العرف الأكاديمي الذي كان سائدا في جامعة الخرطوم حتى وقت قريب، ولا أدري إن كان ساريا حتى اليوم ام لا ، حيث كان الاستاذ لا يعين الا أن يكون قد استوفى الشروط العامة ،وهي الحصول على درجة الشرف في الشهادة الجامعية الاساسية، ثم حصل على الماجستير والدكتوراة في ذات التخصص . ولم يكن من المسموح لمن يحصل على الدكتوراة في تخصص مختلف عن الماجستير أو البكالريوس ،أن يمنح فرصة التدريس الجامعي أبدا حتى يشيب الغراب ويصبح القار كاللبن الحليب. والعجب العجاب، ان صانع القرار حار في أمر طلاب الجامعات الجنوبية، فوجد حلا سهلا بفتح جامعة جديدة هي جامعة بحري ظنا منه القدرة على حل المشكلات الأكاديمية بقرار اداري او وزاري، وهذا ما لا يستقيم عقلا ولا منطقا ولا واقعا، لذلك جاءت الجامعة الجديدة كوليد أنكرته أمه وتركته يندب حظه ويلوم دهره. لقد تركت ثورة التعليم العالي أثرا نفسيا سيئا في بيئة التعليم العالي والبحث العلمي في السودان ،يتمثل في الاستسهال والتبسيط واخراج الامور من محتوياتها وسياقها . فكل بناء به عدد من الطلاب يمكن ان يطلق عليه جامعة ،وكل روضة يلتحق بها الشفع اليفع تدق لهم الطبول احتفاء بتخرجهم. فصار الخريجون مثل أنبياء الزور وبعض أساتذة الجامعات هم مثل مسيلمة الكذاب، وبعضهم لا يؤلف كتابا ولا يجري بحثا ولا يشارك في ندوة علمية. أقول هذا وانا على يقين بان عددا من خريجي الجامعات الجديدة يعملون الآن خارج السودان، وفي مراكز مرموقة لكن ذلك يجب ألا يحجب عنا الحقيقة الناصعة ،وهي عدم تفريخ الجامعات بلا هوادة ولا تدبر ولا بصارة.قيل إن مدرسة ثانوية شهيرة في امدرمان وصفها (الهادي الضلالي) بانها لم تتشرف في عمرها الطويل بادخال طالب واحد الى الجامعة ، ولما هبت رياح ثورة التعليم العالي رأى أصحابها تحويلها الى جامعة، ونجحوا في ذلك. فعلق الضلالي قائلا: « ان هذه المدرسة عمرها لم تدخل أحدا الى الجامعة ولما زهجت دخلت هي بنفسها الى الجامعة» . إن الحق كل الحق مع طلاب جامعة بحري ، ولو أنهم رفعوا دعوى قضائية ضد الحكومة لأنصفهم القضاء تعويضا لخسارتهم الانتماء الى جامعتهم الأم التي ألفتهم وألفوها، ليتم نسبهم قهرا الى جامعة أخرى فرضت عليهم قسرا. وكان بمقدور صانع القرار أن يستلهم تجربة استيعاب طلاب البعثات الأجنبية السودانية عند الغاء نظام البعثات عند قيام الجامعات الجديدة ،وبالفعل تم استيعاب الطلاب في الجامعات العريقة وهي الخرطوم والسودان والنيلين وجوبا واعالي النيل وبحر الغزال يومها . وكان من الممكن توزيع طلاب الجامعات الجنوبية على الجامعات السودانية وفقا لنتائج الطلاب وتخصصاتهم . أزمة طلاب جامعة بحري رسالة جديدة مفادها، ان سياسة التعليم العالي بحاجة الى مراجعة جذرية تضمن إعادة الهيبة للجامعات وللخريج الجامعي ،حتى لا تختفي خطوط التماس بين كلياتنا ومعاهدنا وجامعاتنا ويصبح كله عند العرب صابون.