لوحة سياسية نادرة، اتخذت من مدينة الفاشر، أو بالأحرى، من كبرى ساحاتها مرسماً لها. وذلك عندما توافدت الجماهير الحاشدة صبيحة الأربعاء الماضي الى هناك، يسبقهم تأييدهم الى رئيس الجمهورية، وغيظهم من أوكامبو. المهم أنه كان وقتها في موضع سخط كبير عندما أفرغ أهالي دارفور رشاشهم المحشو غضباً وثورة في وجهه، ووجه من دفعوه الى التجاسر على الرئيس عمر البشير واتهامه بارتكاب جرائم في دارفور، ولم يدر بأن الشعار الذي اقتسم رفعه أهل دارفور بمختلف تكويناتهم الإثنية والقبلية اختزل على نحوٍ بليغ ليصبح: «كلنا عمر». وكان عمر، يفند على طريقة المؤسسة العسكرية التي جاء منها، طريقة البيان بالعمل كما يقولون، الدعاوى المعطوبة في حقه، حيث التقى قبل ان يصل الى مكان اللقاء الجماهيري بألف أسرة من النازحين قرروا العودة طوعاً من المعسكرات الى إعمار قراهم ليصبح عدد من عادوا خلال هذا العام فقط الى قراهم «9240» أسرة بولاية شمال دارفور وحدها. خاطبهم الرئيس واستمعوا اليه، واستمع اليهم وخاطبوه، ثم وعدهم بتوفير الدعم للعودة الطوعية والعمل على إزالة أسباب النزوح وتفريغ المعسكرات، وأكد التزام الحكومة التام بتحقيق السلام في دارفور، ثم غادر الرئيس بعد ذلك الى مكان الاحتفال الذي أعد بشيء من الترتيب. والي شمال دارفور، عثمان محمد يوسف كبر عندما اعتلى المنصة ونظر من عليها الى تلك الجموع الهادرة التي خفت لاستقبال الرئيس على نحو عفوي أحس بشيء أشبه بالطرب فيما يبدو، وتجلى ذلك في قوله: «السيد رئيس الجمهورية، ثم صمت برهة إتكأ فيها على عصاه، وحدق ملياً في الحضور قبل أن يتابع على نحو غنائي: «نحن ما صدقنا إنك بجلالك جيتنا زائر». وعلى كثرة الزيارات التي ظل رئيس الجمهورية يقوم بها الى ولايات دارفور، لدرجة تزامنت فيها زيارته الأخيرة الى الفاشر مع اخرى كان قد قام بها العام الماضي في نفس اليوم، إلا أن زيارته هذه التي رافقه فيها وزراء ومسؤولون كبار اكتسبت أهمية مضاعفة وتركت أصداء سياسية وإعلامية واسعة وذلك من جهة أن بها قدراً كبيراً من التحدي وأنها كانت الأولى بعد اتهام الرئيس من المحكمة الجنائية الدولية، وبعد ان اجتهد البعض في تصويره وكأنه محض رئيس معزول عن شعبه، وأن الوضع الأمني في دارفور لا يسمح بمثل هذه الزيارة. لكن تلك التصورات غير المستندة إلى ساقين، تبخرت مع أول «عرضة» في الهواء الطلق وسط عشرات الآلاف من المواطنين، وأرسلت الزيارة رسالة عصية على الإنكار دحضت إدعاءات أوكامبو وتدهور الأوضاع في دارفور. فمن غير المعقول ان تخرج مثل هذه الحشود في وضع يوصف بالمتدهور لاستقبال رجل يمكن ان تكون له صلة من قريب أو بعيد بما اتهم به. والرسالة التي حملتها زيارة الرئيس الى ولايات دارفور الثلاث كان مفادها حرص الحكومة على السلام الذي أضحى الهدف الاستراتيجي والقضية الأولى أكثر من أي وقت مضى. وعكست الحكومة كذلك حرصها على إشراك الجميع بلا استثناء أو عزل لأحد في مبادرة أهل السودان لحل مشكلة دارفور، الى جانب تعهدها ببسط الخدمات ومعالجة أسباب النزوح وما الى ذلك من الأشياء التي تُبشر بغد أفضل لمشكلة دارفور التي أضحت الثغرة التي يلج عبرها المتربصون ومن نسج على منوالهم.