من القصص التي يتناقلها البعض بمتعة مشبوهة، وبمذاق «طاعم» للسياسة، أن احد المواطنين تأبط «عكازته» وخرج على عجل لاستقبال رئيس الجمهورية الذي زار منطقتهم وقتذاك. فغير وجهته المعتادة من مزرعته الى المكان الذي أعد للإحتفال بزيارة الرئيس، إلا أنه وكعادة بعض المسؤولين الولائيين فقد استغل مسؤولو ولايته الذين لم يرهم قبل ذلك اليوم، تلك الزيارة الرئاسية في استعراض قدراتهم الخطابية، وعضلاتهم السياسية، حيث تحدث في الاحتفال رؤساء اللجان الشعبية والتحضيرية والعليا والمعتمد ولما جاء دور الوالي ما كان من صاحبنا إلا أن قال بطريقة عفوية «ها ناس ها أديتونا الليل.. ما تحضرونا عرضة الرئيس خلونا نمشي نشوف شغلتنا وبغض النظر عن صوابية هذه القصة عن عدمها، فإن الناظر الى اللقاءات الجماهيرية التي يخاطبها الرئيس عمر البشير يلحظ أن «العرضة» أضحت سمة ملازمة لها منذ مطلع التسعينيات، وحتى زيارته الأخيرة لولايات دارفور، بل إن العرضة في هذه الزيارة الأخيرة على وجه الخصوص كانت أوضح أكثر من أي وقت مضى، الأمر الذي يدفع الى البحث فيما يمكن ان يوصله هذا النوع من التعبير الحركي من رسائل سياسية وسايكولوجية وربما فولكلورية. وبحكم مرافقتي للرئيس في زيارته لولايات دارفور الثلاث أخيراً ضمن مجموعة من الصحافيين الأجانب ورؤساء تحرير الصحف السودانية، فقد استطعت ان أقف عن قرب، على هذه العرضة للرئيس على أنغام موسيقى حماسية، وأغاني أشد حماسة، فقد كان فيما يبدو يتفرج على وقعها وسط الجماهير، ويسعد سراً باندهاشهم الدائم أمامها، وانبهارهم بقدراته المذهلة في خلق عرضة على قياس تناقض الموقف. فالموقف الذي أظل تحت سقفه هذه الزيارة كان معقداً ومربكاً جداً، إذ جاءت زيارة الرئيس الى دارفور بعد إدعاءات أوكامبو وطلبه إستصدار مذكرة توقيفية بحق البشير بزعم ارتكابه جرائم إبادة وتطهير عرقي واغتصاب جماعي. وقبل ذلك جاءت وسط اعتقاد غربي- تبين خطله فيما بعد بأن الرئيس لن يتجاسر ويذهب الى دارفور بعد هذه الإتهامات، وأن الخلل الأمني بالإقليم لا يسمح بمثل هذه الزيارة وأن الرئيس أصبح معزولاً وما الى ذلك من الأحلام السياسية التي أيقظتهم منها ربما عرضة الرئيس في الهواء الطلق أمام الحشود المهيبة التي تدافعت لتأكيد تأييدها له. واستهل الرئيس عرضته في الفاشر حتى قبل ان يقول كلمته الأولى من على المنصة، وذلك على إىقاع أنشودة طويلة تبتدي بأمة الإسلام فتية والجهاد أصل القضية، وتنتهي ب «البشير الطايع الله وبيهو رضيانة الرعية» وبعد ان فرغ من حديثه كان أحد فناني الفاشر على أهبة الاستعداد لأداء أغنية «شدولك ركب فوق مهرك الجماح.. ضرغام الرجال الفارس الجحجاح». ولم يكن ذلك الفنان وحده ما يشير الى رئيس الجمهورية بإبهامه، فكان غالبيتهم يشيرون اليه وهم يرددون معه «لا بتتلام ولا بتعرف تجيب اللوم «صدرك للصعاب دايماً بعرف العوم.. ود ناساً عُزاز جمعوا المكارم كوم تفخر بيك بنات الفاشر والخرطوم». وفي مدينتي نيالاوالجنينة فإن الوضع، وإن شئت الدقة الطرب، لم يختلف كثيراً عن الفاشر، فقد كان لافتاً ان الرئىس وبمجرد وصوله الى مكان الاحتفال في المدن الثلاث كان يصعد المنصة ويحيي من فوقها الجماهير - بالعرضة - ثم يقفل راجعاً الى مكانه ليبتديء بعد ذلك البرنامج الذي يُختتم بعرضة كذلك. وفي الجنينة بدأ كل ما سبق ذلك استعداداً للعرضة فقط،وذلك عندما دعا الرئيس الحشود الهادرة للاقتراب منه، فاقتربوا جداً حتى التصقوا بالمنصبة ثم اقتسم معهم، واقتسموا معه عرضة ساخنة كانت هذه المرة على أنغام أغنية «المدفع الرزّام». واستطاع رئيس الجمهورية ان يسكب الكثير من الدهشة في كأس الصحافيين الأجانب بهذه العرضة التي لم تقتلها العادة، ولم تحولها إدعاءات أوكامبو الى فعالية خاوية، فقد عرف الرئيس كيف يحيط عرضته بذلك الحاجز اللا مرئي بين العادي والاستثنائي. وتعد العرضة من الأشياء المثيرة في التجمعات الكبيرة، شأنها شأن «الصفقة» والتبشير والهز وكواريك الطرب والزغاريد» وهي بذلك ممارسة ثقافية سودانوية ارتبطت بالفراسة مردها فيما يبدو الى مشاعر الزنج المخلوطة بالدماء العربية، لكنها، أي العرضة لا يقوم بها «الكبار» عادة إلا في حالات نادرة وبوقار شديد. وسن رئيس الجمهورية سُنّة هذه العرضة الرئاسية والجعلية في الأساس، ولم يسبقه في ذلك احد من الرؤساء السابقين في السودان، ممن كانوا يعبرون عن مشاعرهم إما بهز الذراع اليمين أو بتحريك اليدين بطريقة خاصة لا ترقى الى الوصف بالعرضة. والناظر الى عرضة الرئيس عن قرب يلحظ مع د. عثمان جمال الدين المتخصص في فن الأداء الحركي أن هذه العرضة كانت مزعجة لدى البعض في بداياتها ثم ما لبث ان تعاطى معها الناس من غير النظر اليها باعتبارها تعبير يخص قبيلة بعينها، فقد استحالت الى تعبير خاص برئيس الجمهورية. فالرئيس لا يبالغ في القفز، كما يفعل البعض في المناسبات الخاصة، فقد اكسب العرضة شيئاً من الوقار، يرفع عصاه بيده اليمنى ثم يرفع يده اليسرى بشكل متوازن وكأنه ينقل إىقاعاً خاصاً به، إيقاع له علاقة «بالمشية» العسكرية كما له علاقة بعرضة الجعليين الشهيرة كذلك. وثمة من تساءل ببراءة عما إذا كان من الأوفق لرئيس الجمهورية أن يؤدي بدارفور عرضة الجعليين بدلاً ان يعرض لأهل دارفور على طريقتهم؟ وعلى السؤال يرد د. عثمان جمال الدين انه ليس من المنطقي عندما يذهب الرئيس الى أي منطقة يؤدي عرضتها، أو يرقص رقصتها، فعرضته على النحو الذي ظهرت به في دارفور، كان يقول من ورائها إن الأمة كلها مجتمعة في دائرة واحدة، وأن العرضة هي ذاتها سواء أكانت في الفاشر أو جوبا أو حلفا لم تتغير، بل ان تغيرها بشكل أو آخر في دارفور، لتكون مقاربة لثقافتها، كان سيجعل البعض يتحدثون عن ان الرئيس حاول استجداء عطف واستمالة قلوب أهل دارفور وهو ما لم يحدث. ويذهب البعض الى أن أي تعبير صادر من أي رجل قيادي سواء أكان في شكل تعبير حركي أو بالحديث أو حتى من ملامح وجهه، فإن له مدلولات عميقة في نفوس من يرأسهم وينتمي إليهم. فتعابير الفرح والسعادة للرئيس في اللقاءات الجماهيرية يعكس شكلاً من أشكال التلاحم بين الرئيس والجماهير بطريقة تذوب معها الكثير من الفواصل السياسية. وبرأي رئيس قسم علم النفس بجامعة النيلين د. أسامة الجيلي، فإن رئيس الجمهورية قد أوصل بما أسماه بالذكاء «الجسدي» الى جانب الذكاء العقلي، رسالة معينة من خلال ما قام به. ومضى الجيلي الى أن عرضة الرئيس وسط الحشود الجماهيرية مؤشر الى أن الرئيس في درجة عالية من التوازن النفسي والأمان رغم ما يقال من مسميات متعلقة بالحرب وما يليها من تبعات. وأردف أن ظهور الرئيس بهذا المستوى من الاستقرار والبُعد النفسي والطمأنينة وسط هذه الحشود الجماهيرية يعطي انطباعاً سيكولوجياً للجماهير بالارتياح والإحساس بالأمان. ومهما يكن من أمر فإن عرضة الرئيس أمام الملأ، على النحو الذي كان بدارفور أخيراً يُعد بمثابة رد عملي على كذب ما يتردد من انهيار الأوضاع الأمنية من جهة، وعلى كذب إدعاءات أوكامبو من جهة اخرى، فظهور الرئيس وعرضته أمام الجماهير تجعله هدفاً محتملاً وسهل الوصول اليه من قبل البعض إذا صحت الإتهامات «الأوكامبوية» في حقه، ولكن لما كانت تلك الإتهامات لا تقوم على ساقين من الحقيقة، فقد عرض الرئيس غير آبه على نحو أثار حماسة البعض وغضب آخرين