كنت في كنف حزب الله في لبنان الاسبوع الماضي، والمناسبة المشاركة في احتفالات الحزب بانتصارات حرب تموز 2006م على اسرائيل، ولموضوع الزيارة قصص مدهشة، وحكايات لم تحك ومشاهد لم تر, الا قليلا، سأحكيها في مقبل الايام، بالعين والصورة والقلم على حلقات. ولكن هناك قصة بائسة في لبنان ظلت تحاصرني اينما ذهبت على امتداد هذا البلد: من بيروت العاصمة شمالاً، وحتى عيترون وبنت جبيل ومارون الرأس جنوباً، على الحدود مع اسرائيل. انت سوداني اذاً انت محاصر بالقصة: قصة السودانيين «المغتربين» في لبنان. يسألك اللبناني من اين انت؟ فترد: انا من السودان، فتتدفق القصة بفصولها وابوابها وحواشيها، وما فيها من وقفات تحكي كيف ان الهوان صار مدخلاً للسوداني خارج بلاده. ويسألك اللبناني لماذا يعمل السودانيين في المهن الهامشية في لبنان؟، مع ان اغلب الذين هنا من الخريجين من الجامعات السودانية العريقة الحديثة - ويسألك لماذا في الاصل يأتي السوداني ليعمل في لبنان وهي من افقر واغلى العواصم العربية، مع ان اللبنانيين انفسهم ظلوا يبحثون عن المخارج للعمل خارج بلادهم، يعملون في دول الخليج وغرب افريقيا، وامريكا اللاتينية، وأوروبا واستراليا، ويضربون اكباد الابل، الى اينما ظهرت فرص العمل او فرص الاستثمار...لماذا يقصد السودانيون لبنان بلدا منقذا يلوذون به لانتشالهم من حالة ضياع تعتريهم في السودان، ومعبراً لاغتنام الفرص قبل ان تضيع، ووجهة لتحقيق حياة افضل قبل ان يتسرب العمر من بين تعاقب الايام والليالي؟ ولماذا الدخول الى لبنان عبر المهن الهامشية، والمضى على خط الهامش إلى آخره، او كما عبر عن ذلك، بشئ من الاسى، سائق التاكسي اللبناني «عمر»، الذي حملني انا ومرافقي من مدينة النبطية على مداخل الجنوب اللبناني ، حيث ختمت بها الزيارة، الى مطار بيروت في رحلة العودة الى الخرطوم. وفي حكايات السودانيين المغتربين في لبنان بعض الاجابات على اسئلة القصة البائسة. « حسين» وهذا ليس اسمه الحقيقي، إلتقيت به في باحة فندق في مدينة بالجنوب، والتي كانت محطة من محطات الوفد الصحافي العربي، الذي زار لبنان للمهمة، إلتقيت به حين كان في حالة انهماك يؤدي عمله في الصباح الباكر، عرفت انه سوداني وعرف انني سوداني من الوهلة الاولى، تعانقنا على الطريقة السودانية اللافتة للآخرين. سألني من متين هنا؟ قلت له منذ الليل؟ وتوالت اسئلته على الطريقة التقليدية المعروفة، ثم انقلبت الآية، حيث بدأت اسأله«سؤال منكر ونكير»، على رأي المثل، وعندما اقترب وجهه من حالة شد تعبر عن معاناته من سيل الاسئلة والاجابات، شعرت بانني قد اكتفيت من الاسئلة والاجابات. وقال«حسين»، وهو يحمل شهادة سودانية، انه جاء الى لبنان قبل عشرة اعوام، وهو يعمل مراقب خدمات في الفندق، الانارة والمصاعد، وحنفيات المياه،و«غيرها» براتب قدره ستمائة دولار في الشهر، وقد يزيد بالساعات الاضافية، من يوم الى آخر، ويسكن في غرفة في الفندق خصصها له صاحب الفندق، الذي حدثني كثيراً عن حسن معاملته له، وعن رأيه الايجابي في السودانيين، من حيث الامانة والصدق والتفاني في انجاز ما يوكل اليهم من عمل. ويقول ان هذا الراتب ضعيف جداً قياساً بمستوى الدخل في لبنان، بغلاء دولة مبذولة للسواح، يدفعون لكل شئ ولا يكترثون. يستطيع حسين ان يقتطع من هذا المبلغ ليرسل الى اسرته الصغيرة زوجته وابنتيه، واسرته الكبيرة والده ووالدته، في الجزيرة، ويقول مستورة، ولكن حسين مكدس باشواق العودة الى السودان، وكسب العيش من داخل وطنه، لانه اكرم وارحم، وشئ له معنى أكثر، غير انه يقول: لو عدت سأكون عاطلاً عن العمل، وفي افضل الاحوال قد اعمل في مجال«يقنع» عطالتي، عمل لا يسمن ولا يغني من جوع، ويقول خياري «حار وصعب»، ولكنها القسمة. وعلى الكورنيش في بيروت، كنت وجهاً لوجه مع سوداني آخر، شاب في الثلاثينات، متمرد على المألوف، على ما بدا، قال انه تخرج في جامعة الخرطوم كلية الاقتصاد في اواخر التسعينيات من القرن الماضي، وظل يبحث عن العمل في مجال دراسته اولاً وفشل، ثم في مجال اقرب، وفشل، وفي اي مجال ايضا، لم يجن سوى السراب، فحزم امتعته ونوى النجوع الى خارج البلاد، وكانت اقرب فرصة له هي لبنان: وصله عبر التهريب من سوريا، منذ عامين ونصف العام كمحطة يعمل فيها لوقت، قبل ان يغادر منها الى اوروبا، عبر التهريب بالطبع، ولكن - قال هذا السوداني، الذي حرص على عدم ذكر اسمه، لم اجد الا هذا العمل الهامشي المقرف على الشاطئ ..يوفر لي ما يسد الرمق لا اكثر ، واضاف: بعد اشهر اما تبدل الحال وواصلت الرحلة في اتجاه هدفي او عدت الى السودان.. افضل العطالة في السودان على هذا العمل الهامشي في بيروت. وآخر التقيت به في سوق «الحمرا» ، اشهر اسواق بيروت، قال انه ظل في بيروت منذ اكثر من عشرين عاما، يتنقل من عمل هامشي الى آخر والى يومنا هذا لم اترق الى ما فوق الهامشي، ويقول محدثي وهو خريج جامعي: عزائي الوحيد انني اقوم بتعليم ابنائي في مدارس جيدة، قد لا اجدها لابنائي لوعدت الى السودان، مع انني احلم باليوم الذي اجد فيه انا واسرتي مقاما للعيش في السودان، نحن هنا في ورطة، ولكن لا ادري ان كانت تحمل، في مقبل الايام، في طياتها اشياء جيدة ام لا؟! ويمضى: نحن امام خيارين اما العودة الى السودان والجلوس على رصيف العطالة، او البقاء هنا والتلظي بنيران الغربة مضافا اليها نيران العمل الهامشي. العمل الهامشي يقتلك نفسيا الف مرة في اليوم الواحد، ويجعلك في حالة تصدي مستمر لاحساس بالدونية يحاول ان يسيطر عليك، يطوقك كما السوار بالمعصم، احساس لا يرحم، ولكن، هكذا يقول محدثي. وتلتقى بآخر خريج يعمل في مزرعة، وثالث يعمل في جنينة، وفي مطعم، وفي اعمال النظافة، مجملا، تجد ابن مزارع في السودان يهرب من المهنة هنا، ليمارسها في لبنان هناك بكل شروطها. ضع المهن الهامشية في لبنان في قائمة، وضع امام كل مهنة سودانياً، يعمل وعلى وجهه علامات انطفاء. المغتربون في لبنان فئتان: الاولى قصدت لبنان هدفا لتحقيق الطموحات، والفئة الثانية جاءت الى لبنان كوسيلة لتحقيق الهدف، اي المعبر الى الهدف، وفي«الحالتين هم ضائعون» ، على رأي الاغنية. هذا الوضع البائس للسودانيين في لبنان، يختصر في كبسولة فشل الحكومات في خلق ادارة قادرة الى استيعاب طاقات السودانيين في الداخل، كشئ ممكن لدولة غنية بالموارد مياهاً وارضاً وغابات وسكاناً ومعادن واخيرا بترول. يزرع المزارع فتخذله السياسيات الموضوعة للتسويق، ويصنع الصانع وتأتي الحكومة وتعطي الاولوية لما صنع في الخارج، ويتخرج الخريج في الجامعات السودانية، ونعطي الوظيفة للاجنبي بدعوى انه كفء. طيب من الذي خلق التدني في مستوى الخريج السوداني؟! نخصخص عشرات المؤسسات والمرافق الحكومية ونقذف بعامليها الى رصيف العطالة، ونفتح في المقابل كل الابواب لاستقدام العمالة الاجنبية، لانها غير كسولة والسودانية كسولة. سوء التخطيط و الادارة في البلاد، جعل منها شيئا اشبه ببيت السلطان، كما يقول المثل في دارفور، وبيت السلطان برأي من هم خارج اسواره شيء زاهي وجميل، يتوافر فيه فيه العيش الرغد، فينشدون الدخول، ومن هم في داخله حياتهم اوامر ونواه، وكبت وربما ضرب، والغاء للشخصية، وانفاس محبوسة، فيبتغون الخروج الى الهواء الطلق. انها اشبه بحالة «الكشف»، على تصوير بليغ من الشاعر الراحل محمود درويش لاوضاع الفلسطينيين بين من هم في الداخل ومن هم في الخارج. بين من هم بين جدران الاحتلال وبين من هم على هوان اللجوء والاغتراب!