نختتم بهذه الحلقة الاخيرة والثالثة ما كتبناه عن انتخاب الدكتور مرسي رئيسا لجمهورية مصر.لقد تطرقنا في المقالين السابقين إلى الدروس القيمة التي تعلمها حزب الإخوان المسلمين في مصر، وافاد منها بإحراز الانتصار المرموق الذي توج به تضحياته الجسيمة حين فاز ممثله الدكتور محمد مرسي بعد أول انتخابات ديمقراطية حرة تجرى في مصر بعد نحو ستين عاماً. والدروس التي تعلمها حزب الإخوان في مصر، واستثمرها في إحراز نجاحه الباهر في انتخابات الرئاسة، جاءت بعد معاناة شديدة دفع الإخوان ثمناً لها من الأرواح، والاعتقال والسجن، والتعذيب، والتشريد على مدى سنوات امتدت من الثلاثينيات في القرن الماضي وحتى العام 2011 من هذا القرن. وكان من أسباب تلك المعاناة القاسية، والتي قد تكون غير مسبوقة في دول العالم، أخطاء ارتكبتها قيادة جماعة الإخوان. وليس من الممكن التطرق إلى هذا الجزء الهام من تاريخ الحركة الإسلامية في مصر بتفاصيل كثيرة في هذا المقال، وذلك لأن ذلك يحتاج إلى كتابة العديد من الكتب، إن لم نقل المجلدات. كل ما يهمنا في هذا المنعطف هو الإشارة إلى هذه الأخطاء التي لا خلاف حولها، والتي نرجو أن تجد من المختصين في عالمي السياسة والتاريخ الاهتمام اللازم بها. تجارب شخصية أبدأ الكتابة حول هذا الموضوع بسرد تجارب شخصية مررت بها، وهي خاصة بعلاقاتي مع بعض الأصدقاء الذين انضموا إلى تيار الحركة الإسلامية منذ لحظة نشأتها الاولى في السودان. وكما يذكر القراء فقد أشرت في اولى حلقات هذا الموضوع إلى أنني كنت صديقاً اثناء الدراسة الثانوية لمجموعة من الأشخاص منهم من توفي إلى رحمة الله، ومنهم من لا يزالون على قيد الحياة. وقد ذكرت كذلك أنه قد وقع عليًّ الاختيار لأصبح واحداَ من ضمن تلك المجموعة لبداية نشاط الإخوان المسلمين في السودان. وذكرت كذلك انه، وبعد اقل من شهر، وقبل أن تتاح لنا الفرصة لدراسة المنشورات التي حملها إلينا الأستاذ الصاوي محمد إبراهيم حول نشاط الإخوان المسلمين في مصر، اتصل بنا في مدرسة حنتوب الثانوية مندوبان من الحركة السودانية للتحرر الوطني وعرضا علينا الإنضمام إلى ذلك التنظيم، الوليد أيضاً، والذي كان يدعو لإنشاء حزب سياسي ديمقراطي، أو قل شيوعي في السودان. وكان المندوبان هما عبد القيوم محمد سعد، رحمه الله وآدم أبوسنينة، ولا أعلم إن كان لا يزال على قيد الحياة. وقد أتيحت لمجموعتنا تلك من الأصدقاء الطلاب فرصة نادرة، لا أدري إن كان الدهر قد سنح بها لغيرنا. كانت تلك الفرصة هي دراسة ما قدم إلينا من منشورات عن حركة الإخوان المسلمين في مصر والحركة السودانية للتحرر الوطني في السودان. وبالفعل فقد تدارسنا ما قدم إلينا من منشورات من التنظيمين. وكان علينا أن نختار الإنضمام إلى هذا او ذاك منهما. ولا بد من أشير هنا أننا كنا على درجة كافية من الوعي تمكننا من الدراسة المتأنية والفهم لما قدم إلينا من منشورات. كما أننا كنا متفتحين لما كان يدور من حولنا من نشاط سياسي داخل السودان وخارجه. وقد تبادلنا الأفكار حول ما قدم إلينا من منشورات إسلامية مصرية، وديمقراطية اشتراكية أو شيوعية إن شئت. وكان النقاش قد دار بيننا بحرية تامة ومن دون أية حساسيات. وبعد فترة زمنية قصيرة جداً حددناها، كان علينا أن نتخذ قراراتنا في الانضمام إلى الإخوان المسلمين أو الحركة الديمقراطية السودانية. نشأ التنظيمان جنباَ إلى جنب اختار زملائي الخمسة، بابكر كرار، والرشيد الطاهر بكر، ومحمد يوسف محمد، وآدم فضل الله، ويوسف حسن سعيد الانضمام إلى تنظيم الإخوان المسلمين. وكنت الوحيد من بينهم الذي اختار عضوية الحركة السودانية للتحرر الوطني. وأطمئن القراء بأنني لست بصدد الحديث هنا عن نشاط الإخوان المسلمين والشيوعيين في مدرسة حنتوب الثانوية في العام 1964. إنني اسعى فقط لاستنباط الدروس والعبر التي استقيناها من تلك الحقبة والتي أدى تجاهلها من قبل الناشطين السياسيين الآخرين إلى كوارث لا يعلم بفظاعتها إلا الله. إخاء ومحبة لا شقاق و جفاء عندما باشرنا نشاطنا وفق اختياراتنا لم يشعر أي منا بضغينة أو كراهية ضد الآخر. وقد نشطنا في داخل المدرسة، وسط الطلاب، وخارجها. فريق يدعو لمبادئ تنظيم الإخوان المسلمين، وفريق يدعو إلى تقديس ما يدعو إليه تنظيم الحركة السودانية للتحرر الوطني ( حدتو وحستو). ولم يحدث قط صدام أو مشاكسات بيننا برغم تباين ما كنا ندعو إليه. وفي الحقيقة فإن ما دفعني للخلاف مع زملائي، وعدم التعاون معهم، واختيار طريق مختلف، لم يكن سوى اعتقاد، ربما كان خاطئاً، بأن زملائي كانوا مسالمين أكثر مما يجب، ولا يميلون إلى ما كنت أصبو إليه من إشعال معارك قد تكون دامية مع المستعمرين البريطانيين وأنصارهم. وخلال فترة بقائنا في المدرسة، وحتى بعد أن انتقلنا إلى مراحل تعليمية أعلى، لم يحدث قط أن تصادمنا، أو تنابذنا، أو اتهم أي منا الآخر. والأغرب من ذلك، أن نشاطنا كان دائباً، ومتواصلاً، ويشوبه الكثير من الحماس. والأعجب من ذلك كله أننا كنا نفضل على الدوام قضاء العطل الصيفية مع بعضنا البعض. ومن الأمثال على ذلك أن محمد يوسف محمد كان يقضي عطلته الصيفية في الأبيض ضيفاً عليّ ويحضر معي كل النشاطات التي اقوم بها مع زملائي تحت لواء اتحاد طلبة كردفان في تلك المدينة. وحدث من أمثال تلك التصرفات الكثير مع طلبة من الشمالية وآخرين في واد مدني او كسلا. وحتى بعد تخرجنا من الجامعات، واشتراكنا في الحياة العامة، ظلت الصلات التي تربطنا أقوى مما كانت، بصرف النظر عن اختلاف انتماءاتنا السياسية، وأنشطتنا الكثيرة المتنوعة. وأضرب الأمثال على ما اقول بأحداث مشهودة في أوقات كثيرة وبلدان مختلفة، داخل السودان وخارجه. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما سافرت إلى ليبيا في العام 1975 بحثاً عن العمل، بعد أن ضاقت بي السبل في السودان، كان المرحوم بابكر كرار، زعيم جناح هام في الحركة الإسلامية السودانية، هو أول من استقبلني، وهيأ لي موطناً في أفخم الفنادق الليبية في طرابلس العاصمة الليبية، وهو يعلم مدى اختلافي معه في وجهات النظر حول الكثير من المسائل. وعندما جرى اعتقالي في السودان في العام 1994، استقبلني المرحوم محمد يوسف محمد في مكتبه في الخرطوم، في وضح النهار. وبعد التحايا، فتح باب خزانة مكتبه، وناولني أكثر من أربعة رزم من الاوراق النقدية، ولم يسمح لي حتى بالتعليق على ما فعل. وتمنى لي استئنافاً سريعاً لعملي. في السودان نفور من العنف ولجوء للديمقراطية برغم أن ما سردته عن علاقاتي مع زملائي الذين خالفتهم في الرأي تبدو مسائل شخصية، تكاد تكون محدودة، إلا إنها في واقع الامر تعكس إلى حد بعيد خصائص سلوك الإنسان السوداني السياسي. ففي السودان، وعلى العكس مما هو معروف في كثير من بلاد الدنيا، العربية والأجنبية، يتحلى الناس بسلوك مسامح، متفهم وبعيد عن العنف عندما يتعلق الامر بخلافات في الرأي، أو المعتقدات الدينية والسياسية. ولم يعرف عن السودانيين قط اللجوء إلى العنف، أو حتى السلوك الخشن عند احتدام الخلافات العقائدية. ولم يعرف السودان طوال حياته المؤرخ لها، والمسجلة أحداثها، اللجوء إلى العنف، سواء كان ذلك في مجابهة الاجنبي المحتل، أو المواطن المخالف. وعلى العكس من ذلك فقد عرفت بلاد كثيرة، في عالمنا العربي، وغيره، سلوك أعمال العنف، والعنف الشديد لحل المشاكل. وتاريخ مصر، وهي اقرب بلاد العرب للسودان، شاهد على ما اقول. وغني عن القول أن اللجوء إلى العنف لحل الخلافات، أو تحقيق الاهداف، قد زاد من تعقيدها سياسياً او دينياً عوضاً عن حلها. ليس ذلك وحسب، وإنما فتح استخدام العنف ثغرات خطيرة استغلها اعداء البلاد للتدخل في شئونها، وتعطيل نموها وتقدمها. وأفضل مثال حديث في هذا الصدد على ما نقول، ما فعلته الولاياتالمتحدة الأميركية حين استغلت أعمال العنف التي استخدمت في أفغانستان لطرد الروس من البلاد. فقد زودت الولاياتالمتحدة الأميركية، تحت ستار مساعدة تنظيم الطالبان على دحر الروس في خلق أجنحة من المقاومة الأفغانية، ومنها تنظيم القاعدة المشهور، لتستخدمه في ضرب الأهداف الوطنية العربية والمسلمة، ليس في افغانستان وحسب وإنما في جميع أنحاء العالم.ونكتفي بهذا القدر من التلميح لنؤكد أن التوجه الجديد في السياسة المصرية، الإخوانية المسلمة على وجه الخصوص، وبعد انتخاب الرئيس الدكتور محمد مرسي لهو المخرج الوحيد من النفق المظلم الذي دفعت أعمال العنف البلاد فيه طوال تاريخها السياسي الحديث. وتمنياتنا للشقيقة مصر بكل تقدم ورخاء، وريادة سليمة، ليس في الوطن العربي وحسب، وإنما في جميع انحاء العالم.