يداخلني شك قد يرقى إلى اليقين أن المؤتمر الوطني في غاية الاضطراب - حتى هذه اللحظة - بشأن الموقف من التفاوض مع قطاع الشمال تحت مظلة القرار (2046).. هناك أكثر من موقف وأكثر من رأي (كما يشتهي فيصل القاسم)، وأكثر من مسؤول (يعافر) في تكييف الموقف الرسمي من التفاوض مع القطاع. رحّب الناطق الرسمي باسم المؤتمر الوطني بمبادرة قيل إنّها مطروحة من دولة أريتريا بشأن التوافق مع قطاع الشمال.. صدر الترحيب في توقيتٍ مميتٍ، كأنه تشبع بحالة الفناء التي أدركت رئيس الوزراء الأثيوبي مليس زيناوي الذي تستضيف بلاده المفاوضات مع القطاع. فات على الناطق الرسمي أن هذا الترحيب يزيد أثيوبيا غمّاً على غمٍ، لأنه يعني أن السودان غسل يده من مائدة أديس الحزينة على وفاة زيناوي، ويريد أن يولم على مائدة أسمرا، وبين العاصمتين ما صنع الحداد. حتى ولو كان الترحيب من باب المجاملات السياسية والعلاقات العامة، فإنّه ومن الناحية الشكلية يستحيل أن يفلت الملف من قبضة الأممالمتحدة والإتحاد الأفريقي، لينتقل بكل سهولة إلى أريتريا. لا عتاب على الناطق باسم المؤتمر الوطني وحده، فالرجل قد عالج تصريحه في اليوم التالي ووصف الحديث عن مُبادرة أريترية للتوافق مع قطاع الشمال على أنه من جنس (بالونات الاختبار) ومواد الاستهلاك السياسي.. وهو إذ يُصحِّح موقفه ويستدرك ما فاته، فإنّه مضى على سنة أكثر من مسؤول، تعاوروا ملف التفاوض مع قطاع الشمال (تعاوروا، بمعناها الفصيح تداولوا، وليست من «العوارة» كما في الاستخدام الدارج للكلمة). على ذات النسق يتعثّر الدكتور كمال عبيد (رئيس الوفد الحكومي للتفاوض حول المنطقتين) في ذات الحبال - حبال المواقف المُتأرجِّحة -.. الرجل رغم حميته المحمودة وكأس غيرته المترع من حب بلده ودينه، إلاّ أنّه رسم الموقف الغامض من التفاوض مع قطاع الشمال بكلمات لا تشكل إطاراً للصورة. عبيد قال إنّ (وفد الحكومة لن يفاوض عرمان أو الحلو أو أي شخص باسم قطاع الشمال، وإن عرمان ليست له علاقة بجنوب كردفان والنيل الأزرق، وإن الحلو وعقار من أبناء المنطقتين ومن حقهما كسودانييْن الحديث عن مناطقهما بصفة شخصية). مقتضى حديث د. عبيد يعني أنّ الحكومة ستضرب أكباد الطائرات حتى تجد طرفاً آخر، ومع هذا فلن تجد من تتفاوض معه في المنطقتين سوى عقار والحلو، لأنهما ببساطة المقابل الموضوعي للحكومة فيما يتعلق بالمنطقتين. وعليه، فليس هناك طرف آخر يمكن أن تتفاوض معه الحكومة وتعتمده الآلية غير عقار/ الحلو.