عاصفة من التساؤلات المستبطنة والمعلنة عن دور الجاسوسية فى إدارة المعارك السياسية والعسكرية بين الدول اطلت برأسها، بعد قصف إسرائيل لمجمع اليرموك العسكرى جنوبالخرطوم.. عقب الاعتداء الإسرائيلى على مصنع اليرموك قطع الخبراء الأمنيون بأن الاعتداء لا يخلو من عمل استخباراتى وأمنى اسرائيلى، سهل لها وضع الإحداثيات النهائية فى تدمير الهدف.. غض النظر عن طبيعته البشرية والتقنية.. غياب أى توقيف رسمى لمشتبه به ك(عميل للموساد) الاسرائيلى، أثار خيال الكثيرين حيال حول مدى اختفاء صاحب البصمة الخبيثة، وأعاد الخرطوم قسراً لمقاعد السينما وروايات رجل المستحيل، ومسلسل رأفت الهجان، وفرض على ذهنها أسماء عملاء بدرجة خائن، كأشرف مروان عميل إسرائيل فى بيت الزعيم عبد الناصر وزوج ابنته هدى، وايلى كوهين رجل إسرائيل فى المخدع الحكومى السورى، بالإضافة لجوناثان بولارد حصان اسرائيل الرابح فى المخابرات الامريكية فى شعبة الأسطول البحرى، قبل أن تتسع حدقات العيون وهى تستدعي قصة مصعب حسن يوسف، نجل مؤسس حركة حماس في الضفة الغربية، وتجربته مع الشاباك الاسرائيلى.. السجلات الرسمية وثائق الخرطوم الرسمية الخالية من توصيف خائن، بدت متسقة مع انفتاح المجتمع السودانى الذى تغيب عنه الأسرار ويذهب ضابط سابق بجهاز أمن الرئيس الراحل النميرى- فضل حجب اسمه- ل(الرأى العام) أن السودان بلد المعلومات المجانية، بحكم حسن النية التى يتمتع بها السودانيون عامة والمسئولون خاصة، وتجعل سيل المعلومات يتدفق عفوياً دون حسابات، ويذهب كثيرون الى ان (كوكتيلات) السفارات فى الخرطوم واحدة من الأبواب التى تأتى بالشر، لجهة أن الكثيرين يأخذون (راحتهم) فى الحديث وإلقاء المعلومات، بحكم الفطرة السودانية فى حسن الظن. فيما قطع الخبير الأمنى حسن بيومى فى حديثه ل(الرأى العام) الى أن خلو السجلات السودانية من عميل للمخابرات الاسرائيلية، لا يعنى عدم وجود الموساد وقال (اسرائيل فى أفريقيا متواجدة فى كل شئ، فى المنظمات وفى قوات الأممالمتحدة وفى الشركات الأجنبية وفى السفارات ، لذا لا تحتاج لجاسوس فهى موجودة بالفعل وتعلم ما نعلمه).. استهداف مبكر الكيان الصهيونى ربما بحكم إدراكه للنفور الفطرى الذى تقابل به المجتمعات السوية المغتصبين ، فضل دوماً اللجوء للتخفى والعمل بعيداً عن العيون، والضرب تحت الحزام، هكذا تقول السيرة الاسرائيلية بعدما أقحمت الخرطوم مؤخراً ضمن مفردات مؤامرتها.. تاريخ استهداف تل أبيب للخرطوم، يرجعه البعض الى وقت مبكر بحكم ثبات الموقف تجاه اسرئيل المتلخص فى (عدم الاعتراف) وظل كذلك فى جوازات سفر السودانيين ممهوراً بختم حكومى تحكيه عبارة(كل الأقطار ما عدا اسرائيل) قبل أن تمحوه الظروف. مراقبون اعتبروا ما تم اليوم رد فعل طبيعى على مواقف الخرطوم تلك، ويذهبون الى أن السودان ومنذ قبيل استقلاله فى يناير 1956م اكتسب عداء الكيان الصهيونى، وكان مسرحه آنذاك مؤتمر (باندونق) فى ابريل من العام 1955م ، حينما رفض الزعيم الأزهرى والمحجوب وعبد الناصر توجيه دعوة سوكارنو لإسرائيل لحضور المؤتمر ضمن ما عرف حينها(كتلة عدم الانحياز) وضمت عدداً من الدول الأفريقية والآسيوية وقالوا حينها(إذا دعيت اسرائيل لن نحضر)، ليبدأ منذ ذلك الوقت التفكير الاسرائيلى فى الانتقام من الخرطوم والقاهرة.. رد الفعل الاسرائيلى على الموقف جاء سريعاً، باحتلال إحدى أصغر القرى المصرية(أم الرشاش) على خليج العقبة، لتنشئ ما عرف بميناء إيلات على البحر الاحمر ونصب عينيها على منابع النيل، لتهديد مصر والسودان، قبل ان تسنح لها الفرصة بإيلام السودان بقيام تمرد جوزيف لاقو فتبنته وقامت بتمويله وتوفير التدريب اللازم لرجاله عسكرياً ومادياً.. رحلة الاستهداف الاستخباراتى الاسرائيلى للخرطوم، تكشفت ودقت جرس الإنذار مبكراً، بعد ان ألقت السلطات فى حقبة السبعينيات القبض على الألمانى (شنايدر) الذى أقر بعمله كمدرب لحساب اسرائيل فى الجنوب، وحوكم فى الخرطوم قبل أن تتدخل الحكومة الالمانية وتتم إعادته اليها. الحزام الكنسى توظيف الدين فى السياسة عبر عمل استخباراتى، لم يكن حكراً على الخرطوم منذ 1989م، فقبلها كانت تل أبيب توظف الدين لضرب الخرطوم، وسعت لما عرف بمشروع(الحزام الكنسى) هدفه إغلاق بوابة جنوب السودان أمام المد العربى الإسلامى فى القارة الذى يضم دولاً مسيحية بالتنسيق مع نيريرى، وضم التحالف حينها اثيوبيا وتنزانيا ويوغندا، لكنه لم ينجح بحكم التطورات فى يوغندا بوصول عيدى امين (المسلم)للسلطة، واثيوبيا بتعنت منقستو، ليفشل المخطط.. الفلاشا توظيف إعلامى واعتبر الخبير حسن بيومى أن قمة اللعبة الاستخباراتية الاسرائيلية تجلت فى سيناريو ترحيل الفلاشا، الذى جاء على خلفية تقارير أمنية اسرائيلية بحاجتها لتوسيع اختراقها الاستخباراتى فى القارة الافريقية، ما يفرض حاجتها لعناصر افريقية تكون مقبولة من مجتمعات الأفارقة عند محاولة زرعها.. سيناريو الفلاشا الذى أثار جدلاً كثيفاً فى الخرطوم بعد كشف النقاب عنه، قطع بيومى أن ثمة مجموعة من العوامل أسهمت فى توظيفه، أهمها حدوث مجاعة فى قبيلة التقراى، ووقتها كان زيناوى معروفا بكرهه لاسرائيل، لتقوم اسرائيل بتحريك تحالفها مع امريكا التى اتصلت بزيناوى لإنقاذ أبناء قبيلته بترحيلهم الى السودان، تزامن ذلك مع تجميع لليهود الفلاشا باثيوبيا، وعند عملية نقل التقراى تم نقل الفلاشا ليفرزوا لاحقاً فى قندر، ما يؤشر للقدرة الاستخباراتية الاسرائيلية.. القدرات الاستخباراتية والاستفادة من الكوارث تجلت أيضاً بعد انكشاف العملية بسبب تمييز الفلاشا عن التقراى، وقرر السودان ضرورة خروجهم من السودان وعودتهم الى أثيوبيا.. الخرطوم طبقاً لبيومى وقتها كانت وبنص القانون الدولى فى إعادة توطين اللاجئين لا تستطيع منع خروج الفلاشا من السودان، وتم الاتفاق على ترحيلهم الى بلجيكا، ومن هناك يذهبون الى اى مكان، لكن الطائرات توجهت الى تل ابيب لتعلن اسرائيل وقتها عن أن السودان رحل اليهود الفلاشا الى اسرائيل، بهدف ضرب الموقف السودانى من القضية الفلسطينية الذى تجلى فى محاولة الرئيس نميرى شخصياً، إنقاذ الرئيس ياسر عرفات أثناء ما عرف بأيلول الأسود بالاردن.. وكشف الخبير الأمنى ان اسرائيل عندما رحلت الفلاشا كانت تعلم انها لن تستفيد منهم ولكنها بنت على الاستفادة منهم استراتيجياً أى بعد قرابة 24 عاماً -أى من ابنائهم. اللاجئون.. الملف الأحمر السودانيون فى تل ابيب، كانت اسطورة تحققت بفضل الخرطوم حينما قست على ابنائها،ونقلت مصادر غير رسمية ل(الرأى العام) أن الكابوس تحول لحقيقة على أرض الواقع ولملف معلن بعد إعلان عبد الواحد محمد نور افتتاح مكتب لحركة تحرير السودان بتل ابيب، وأن الكثيرين من أعضاء الحركة أضحوا حاملين ل(جوازات إسرائيلية).. وكشف مصدر آخر مقرب من الحركة وناشط فى منظمات الاتحاد الاوربى ل(الرأى العام) عن لقاء عقد مطلع العام الماضى ببروكسل أعرب فيه العديد من حاملي الجوازات الاسرائيلية من أصل سوداني وتابعين للحركة عن رغبتهم في العودة للخرطوم، وما يحول دون ذلك خوفهم من رد فعل الخرطوم الرسمية تجاههم، ما دفع لمحاولة الاتصال بالجهات المختصة لم تكلل بالنجاح ويرجع ذلك لاهمال ملف اللاجئين السودانيين باسرائيل، وقال فى حديثه ل(الرأى العام)(الملف اذا تم النظر اليه فى سياق الحديث عن الاستهداف لابد من منحه عناية اكبر). الربيع العربى تحليلات أخرى ترى ان تواصل مسلسل الاستهداف الاسرائيلى للخرطوم استخباراتياً، انتقل من مرحلة التخطيط لفصل جنوب السودان الى ما بعد الانفصال وأن الربيع العربى مثل عاملا محفزا للمخابرات الاسرائيلية فى تركيز الاستهداف بعد وصول الاسلاميين للسلطة فى دول الربيع العربى ما يجعلها متسقة مع نظام الخرطوم بحكم التقارب الأيدولوجى، ويذهب د. عبد الناصر سلم عضو مجلس ثورى التحرير والعدالة مدير المركز الافريقى لدراسات حقوق الانسان أن المرحلة الجديدة للعمل الاستخباراتى والامنى الاسرائيلى فى استهداف الخرطوم تعتمد على شبكات كبيرة من العملاء لضمان دقة الهدف، وهو ما تؤكده سيناريوهات القصف الدقيقة التى قامت بها اسرائيل على الأراضى السودانية وأضاف(حالياً اسرائيل تعتبر السودان خطراً كبيرا على أمنها، واستهدفته بناءً على ذلك، والأمر يرتبط بمصر اكثر من ارتباطه بحماس وايران)وتابع(اسرائيل تعانى رعبا من الجهاديين فى سيناء تحديداً الذين كثفوا عملياتهم فى الآونة الأخيرة، ولأن الاتفاقية بين مصر واسرائيل تمنع اسرائيل من القيام بأى عمل استباقى او وقائى هجومى فى سيناء ضد هذه المجموعات، كما أن اسرائيل لا تريد الدخول فى صراع مع مصر فى هذا التوقيت، ما جعلها تنظر للخرطوم باعتبارها ممولا للعمليات فى سياق التهريب الذى يتم عبر حدودها الى حماس الذى تتقاسمه مع هذه الحركات). العملاء.. ليسوا أشخاصا بالرغم من ارتباط عمليات التجسس بالأشخاص، الا أن سبتمبر من العام الماضى، كان إيذاناً بتغيير هذا التصور خصوصاً فى الخرطوم، بتدشين تل ابيب لما عرف بطائرة للتجسس على السودان، الأمر الذى يقحم البعد التقنى والتكنلوجى فى المشهد.. ويرى العميد(م) حسن بيومى أن ما تم فى اليرموك منطقى بحكم أن كل مصانع السلاح فى العالم مستهدفة، لكن يجب إدراك ان تأمينه لا يكون بالسرية فقط وانما عبر خلق مجال حيوى حولها، ودخول أى عنصر خارجى فى نطاق المجال يطلق أجهزة الانذار المبكر المرتبطة بغرفة عمليات ليست بعيدة عن المصنع وتحت يدها أسلحة متطورة.. فهل تستوعب الخرطوم..؟