كعادته، أبدى الفريق عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع تفاؤلاً فوق المعدل بتطبيع العلاقات مع جوبا في يناير المقبل، ووضع نسبة عالية جداً لما تم الاتفاق عليه في أديس بشأن الملف الأمني، حيث وصلت تلك النسبة ل (80%)، ولكن رغم تلك النسبة السخية نشعر بعدم القدرة على التفاؤل مع الوزير لأسباب موضوعية. فالراصد لتطورات العلاقات الثنائية بين دولتي السودان لن يجد شحاً أبداً في الاتفاقيات، وإنما على النقيض من ذلك يجد ما يشبه (التُخمة) فيها، ولكن تظل العبرة والمعضلة دائماً في التنفيذ. فمن قبل وقِّعت العديد من الاتفاقيات ولكنها لم تغادر الورق لأرض الواقع لأسباب غالباً ما تكون في نفس جوبا. وزير الدفاع، والكثير من المراقبين تقاسموا في مارس الماضي تفاؤلاً بطي صفحة الحرب عقب التوصل في أديس لاتفاقيات جيدة كان أبرزها ما عُرف إعلامياً باتفاقية الحريات الأربع، ثم رفع من سقوفات التفاؤل زيارة وفد الجنوب في خدعة إستراتيجية أعقبها مباشرة الهجوم المباغت على هجليج. وفي سبتمبر الماضي ابتهجنا بالتوقيع على اتفاقيات التعاون مع دولة الجنوب بأديس ذاتها ظناً منّا في أنها ستشكل مدخلاً جيداً للتطبيع مع جوبا، لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، واحتاجت تلك الاتفاقيات لترتيبات ومصفوفات لإنفاذها في يناير الماضي رغم احتفالنا المتسرع بتلك الاتفاقيات في مطار الخرطوم. وفي اجتماعات يناير المقبل، ينتظر أن يتم وضع آليات جديدة لإنفاذ الاتفاق لجهة أن الآليات القائمة الآن لا تسمح بإنفاذ ما اتفق عليه، وهو الأمر الذي يغري للوهلة الأولى بالتفاؤل، ولكنّ تجارب جوبا تحوله في ظل الثقة المفقودة بين البلدين - على الأقل - إلى تفاؤل حذر، لأنها تجيد المراوغة والهروب إلى الأمام من مواجهة وتنفيذ ما يليها من مهام في الملف الأمني وفك الإرتباط مع الجيش الشعبي في جنوب كردفان والنيل الأزرق. وهو الأمر اللازم لتطبيع العلاقات بين البلدين، ومن غيره لا يُمكن بالطبع أن تستأنف العلاقات وحركة التجارة بين حدود مشتعلة، فهذا لا يحدث في أيِّ مكان في الدنيا. جوبا، غير جادة في الواقع في تنفيذ الملف الأمني وتلعب على ورقة الوقت وهي تستبطن حدوث تغيير الحكومة في الخرطوم، وبالتالي يتحقق لها ما تريده وأكثر في جميع الملفات موضع الخلاف سواء أكان ذلك بوضع اليد أو برضاء حلفائها الذين تأمل في أن يصعدوا لسدة الحكم. من الآخر، يبدو أن جوبا التي تعيش أوضاعاً اقتصادية أنكى من الخرطوم، مازالت تمني النفس بسقوط النظام، وتحسب أي احتجاجات شعبية صغيرة أو محاولة إنقلابية فاشلة هي التغيير، وبالتالي، تعمد على التسويف المتعمد في إنفاذ الاتفاقيات حتى أضحى التطبيع مع جوبا مثل التطبيع مع أمريكا رهيناً بتنفيذ سلسلة من المطالب المتحركة والتنازلات المؤلمة. ثم لا تطبيع في النهاية.