بين حسم وحسم، يختفى حسم، كان المشهد داخل (حوش) الوطنى أمس الأول ود. نافع على نافع نائب رئيس الحزب الحاكم (يردم) الأحزاب ، رافضاً توصيف حديثه بحديث الدولة، وأنه انبرى للحسم من موقعه فى الحزب بهدف تعرية أحزاب الفجر الجديد.. فى المقابل كان د.الحاج آدم يوسف نائب رئيس الجمهورية ، يغلق القوس على عبارة الفجر الجديد، شاناً هجوماً غير مسبوق على أحزاب المعارضة واعتبر الوثيقة مخططا مدعوم خارجياً لزعزعة الأمن والإستقرار بالبلاد يستهدف الشريعة الإسلامية.. البعض في الخرطوم يقف على أعصابه إنتظاراً لرد فعل الحزب الحاكم وتنفيذ تهديداته، بعدما نجحت على ما يبدو المعارضة بصيغتيها المدنية والعسكرية فى إقناع الخرطوم، بأن تناقضاتها حيال الفجر الجديد تكتيك ليس إلا.. وتجلى النجاح فى شوارع الخرطوم بترديد شعارات التهديد والوعيد التى انطلقت ممهورة بديباجة قيادات الحزب الحاكم فى أعلى مستوياته.. منسوبو المعارضة، بعد فرح لم يستمر طويلاً اصطدموا بحقائق الواقع فى الخرطوم وقسوته، فالقيادات الحزبية الكبيرة أخذت تتنصل من توقيعات منسوبيها فى الصف الثانى فى تزامن بدا غريبا واعتقالات للعائدين من كمبالا، فسرته دوائر الحزب الحاكم بأنه نوع من التكتيك لبث الاطمئنان فى أجهزة الدولة بأن المعارضة ليست على قلب رجل واحد.. آخر مشاهد التناقضات الصارخة بين مكونات العمل المعارض تجلت على ما يبدو فى تلميحات القيادات الموجودة داخلياً، وعبر عنها الأمين العام للمؤتمر الشعبى د. الترابى بقوله أمس الأول(إسألوا الصادق المهدي عن الفجر الجديد) ما أعاد للأذهان اتهامات سابقة طالت الإمام بتعويق العمل المعارض، لجهة إسراعه كأول حزب لنفي مشاركته فى التوقيع على الوثيقة بأدواتها العسكرية.. من جانبه أهدى الإمام الحزب الحاكم وسيلة أخرى للطرق على تناقضات المعارضة، بتقليله -أى الامام- من النتائج التي يمكن أن تحرزها القوى السياسية الموقعة على وثيقة الفجر الجديد في كمبالا مع الحركات المسلحة في دارفور والحركة الشعبية قطاع الشمال بالنيل الأزرق وجنوب كردفان، وقال المهدي لدى مخاطبته ندوة عن دور منظمات المجتمع المدني في التحول الديموقراطي بدار الامة بأمدرمان، إنه لا مجال لتوحيد الصف الداخلي والخارجي إلا من خلال التركيز على العمل السياسي وليس عبر الوسائل العسكرية. المهدى لم يكتف بإعلان رفضه للوسائل، بل أشار لنكوص الحركات عن اتفاق سابق مع الأمة حول توحيد الأدوات فى الجانب السلمى بتبني العمل السياسي كأساس للعمل المعارض وإحداث التغيير بالبلاد تم توقيعه فى نوفمبر الماضى. كثيرون يذهبون الى أنها ليست المرة الأولى التى يطعن فيها الإمام المعارضة فى الظهر مثيراً حنق جحافلها، فيما يرى آخرون ان الأصل فى الإمام الصادق المهدى تعامله مع التغيير من خلال العمل السياسى، وان تجربته وتربيته بعقليته الديمقراطية والمتفتحة تقف بالضد من أى عمل عنيف حتى لو توافرت شروطه وأدواته.. ويدلل الحانقون على الإمام، بموقفه السابق إبان تجربة التجمع الوطنى الديمقراطى، وكيفية خروجه المفاجئ مثيراً حيرة المراقبين، قبل ان تكشف الأيام انحيازه للعمل السياسى عبر اتفاق جيبوتى الشهير، ليعود بعده المهدى للخرطوم محمولاً على ظهر تفلحون، ليصدر بعدها قراراته الأشهر عقب مؤتمر مصوع بانسحاب الحزب من كافة أجهزة وهيكل التحالف المعارض طيلة حقبة التسعينيات، وتسليم مبارك الفاضل ملف التفاوض مع الحزب الحاكم بشكل رسمى.. موقف الأمة آنذاك أثار حفيظة المعارضة برمتها ووجهت سهام نقدها صوب الإمام واستثنت من هجومها يوم ذاك الأمير نقد الله ممثل حزب الأمة بتجمع الداخل لجهة مواقفه المعروفة وتحسره إبان خروج حزبه من التجمع.. أجهزة الحزب الحاكم فى الخرطوم ودوائره بدت أكثر تركيزاً على الوثيقة تبحث فيها عما يتسق وموقف الإمام الذى أشاد بموقفه هو والترابى د.نافع، لتسهيل ذبح الفجر الجديد بسكين الأخلاق والدستور والدين، واعتبرت قيادات المؤتمر الوطنى أن توقيع المعارضة على الوثيقة جاء مخالفاً للدستور ولخيارات الشعب السودانى ، بإقرار تغيير النظام بالقوة وأن الاتفاق مع الجبهة الثورية يمثل إقرارا لما تقوم به من ممارسات قتل وتشريد وفوضى، وأن ما تم يضع الذين وقعوا عليه فى مواجهة الشعب السوداني الذي اختار طريق الانتخابات والديمقراطية بصورة أساسية. بعيداً عن نظرة الحزب الحاكم واتهامات التخوين، إلا أن توقيت التوقيع والحديث عن تغيير فى الخرطوم تزامن ومجموعة من العوامل والظروف هى الأصعب على البلاد من جهة والأخطر على بقاء المؤتمر الوطنى، بيد أن ما خفف عنها وجود مجموعة من النقاط التى حوتها وثيقة الفجر الجديد ، وجعلت المنتسبين للحزب الحاكم يقهقون لابتعاد شبح الخطر. وطبقاً للعيد منهم فإن أبرز نقاط الاختلاف والتناقض النص على مدنية الدولة، وهو أمر لم يتم حسمه داخل أضابير المعارضة الحزبية نفسها، ويرون أن الأمة والشعبى لكل منهما تصورهما المختلف لمفهوم مدنية الدولة، ويعد مغايراً لما يتصوره البعث والشيوعى والناصرى على سبيل المثال، وأن عدم الحسم انتقل مسرحه الى وثيقة الفجر الجديد التى لم تضع تصورا محددا بعد أن نصت بشكل مباشر على فصل الدين عن الدولة ، الأمر الذى يسهل للمؤتمر الوطنى اصطياد جماهير الأحزاب ذات الخلفية الدينية كالأمة والشعبى، ويسهم فى حرقها سياسياً باعتبار ان المكون الدينى جزء لا يتجزأ من برامجها.. التناقضات بين مكونات الفجر الجديد التى احتفت بها الحكومة لم تقف عند محور وضعية الدين فى الدولة ، بل تطورت الى اعتبار أن توقيع نوفمبر بين الأمة والحركات المسلحة باعتباره اتفاقاًُ ثنائياً تم تغليبه على الاتفاق الجماعى الموقع فى كمبالا، ويذهب الرافضون لحديث الصادق الى أن الالتزام بخط العمل السياسى هو موت بطئ للاتفاق، وأن الوطنى عبر أجهزته ومصادره يمكن له شل حركة الشارع وقطع التراكم الثورى الذي عول عليه الموقعون على وثيقة الفجر الجديد، ما يحبط خط التغيير، كما أن أحد أبرز معوقات عمل التجمع الوطنى الديمقراطى تمثلت فيما عبرت عنه العديد من قيادات التجمع العسكرية فى وقت مضى بدءاً بالعميد(م) عبد العزيز خالد وقيادات الحركة الشعبية السياسية، بأهمية العمل السياسى الداخلى لنقل منجزات العمليات العسكرية فى الجبهات ما يسهم فى خلق التعبئة والتراكم الثورى المطلوب، وأن تجمع الداخل فى حقبة التسعينيات كان يعانى من القيام بدوره لذا لم تستطع المعارك حسم النظام الحاكم وإسقاطه، الأمر الذى دفع د. حيدر ابراهيم للقول لى بأنهم أكتشفوا أنهم اضاعوا 15 عاماً من أعمارهم وراء سراب. مقربون من الامام يرون أن حديث الامام مبدئي وليس تراجعاً أو نكوصاً أو انحيازاً لمصالح، بل هو تعبير عن قناعات يحرص الإمام على ترسيخها داخل حزبه أولاً وفى الشارع السودانى عامةً، بدءاً بعبارة الامام عبدالرحمن المهدي (الفش غبينتو خرب مدينتو) وصولاً لحديثه الحالى الرافض للأدوات العسكرية فى التغيير السياسى.. أصحاب الموقف الوسطى بين الحركات والأحزاب وغير منتمين للحكومة ، بدوا أكثر حكمة وهم يعلنون رفضهم رفع السلاح فى تغيير النظام لكنهم مع تغييره، ويرون أن ما يجبر الكثيرين على حمل السلاح هو نكوص الوطنى عن تنفيذ التزاماته تجاه الآخرين وما تمهره أقلام قياداته، بالتالى فان المهمة تبدو صعبة امام أصحاب خيار التغيير السلمى لجهة ما يواجه ذلك من صعوبة فى إقناع حاملى السلاح، ليبدو خط الإمام أوهن من خيط العنكبوت.. مآلات الفجر الجديد بدت قبل ان يجف حبرها في الظهور، وطفت التناقضات إلى السطح بعد أن سارعت قيادات الحركات المسلحة لصب جام غضبها على مواقف الأحزاب، ما جعل المراقبين يتوقعون أن يسهم الهجوم اللاذع فى تأزيم الموقف المؤزم بالأصل وزيادة توسيع شقة الخلاف الحالية، والى ذلك الحين تظل المعارضة دائرة بين الكاظمين الغيظ كالإمام، وبين منتظري لحظة الصفر.. وبين الفريقين تشتد حدة الانقسام.