الكاتب السوداني.. يبدأ العمل.. في بواكير الشباب متحمساً.. ثم يبدأ العد التنازلي، حيث يتناقص معدل الانتاج كلما قرب عمر الكاتب من العقد الثالث. فهناك مواهب وعبقريات كبيرة، ولكنها توقفت عن الكتابة، خاصة اولئك الذين يكتبون كتابة ابداعية في الشعر والقصة والنقد. حيث غابت أسماء كانت مضيئة في سماء الأدب والفكر أبان ستينيات القرن الماضي. ولكنها توارت واختفت وزهدت في الكتابة زهداً تاماً!!. ولهذا كان العمر الافتراضي للكاتب في السودان، عمراً قصيراً جداً. رغم ان اعمار الكتاب على المستويين الاقليمي والعالمي يصل إلى أعلى النسب.. فهم لا يعتزلون الكتابة الا حينما يغيبهم الموت. فهم لا يغيبون عن الضوء إلاَّ بعد السبعين أو الثمانين. .. إذن.. لماذا يعتزل الكاتب السوداني الكتابة مبكراً؟!. اعتزال الكتاب هنا للكتابة يأتي بسبب ان الكتابة ليست مهنة كغيرها من المهن فالكاتب لا ينال عليها اجراً!!.. هي.. إذاً.. هواية يمارسها الكاتب عندما تكون ظروفه مواتية. ولكنه عندما يتجاوز سن الحماس (الشباب) وتكبر مسؤولياته الاجتماعية والاقتصادية بسبب «تحمل مسؤولية اسرة».. فهو ينشغل بعمل يدر عليه دخلاً يسعفه في تحمل هذه المسؤولية. فالكتابة.. لم تتأسس بعد في السودان بوصفها مهنة بالنسبة لكتاب الفنون والآداب. وذلك لغياب (الصناعة الثقافية) المنوط بها انتاج السلع الثقافية مثل (الكتاب والمجلة الفكرية والادبية والفنية وصناعة السينما والمسرح والمسلسل الإذاعي والتلفزيوني) وصناعة (الفيديو الدرامي) والمسرح الغنائي والاستعراضي وصناعة الكتاب. ويترتب على غياب (الصناعة الثقافية) الكثير من النتائج السالبة، منها قصر عمر الكاتب. واعتماد الثقافة القومية على المنتوج الاجنبي، إلى جانب تعطيل قدرتها وفعاليتها في توصيل صوتها الى الفضاء الثقافي العالمي ومحاورته حتى تلعب الثقافة السودانية القومية دورها في التماس الحواري الديمقراطي مع العالم المعاصر. ان نمو الثقافة القومية في جانبها الابداعي يحتاج إلى التراكم الانتاجي الابداعي القومي، اذ ان النمو الجمالي التقني لأشكال الكتابة الابداعية يحتاج لهذا التواصل والاستمرار بالنسبة لعمل المنتجين الابداعيين.. على ان يطول عمرهم الفني بحيث تنضج تجربتهم وتعطي افضل ما عندها قبل ان تنسحب وتتوقف وتعتزل. وبسبب.. ان الكتابة الابداعية في السودان.. هي ليست مهنة.. فقدنا الكثير من القدرات الابداعية التي اعتزلت وتوقفت. وهناك الكثير من الاسماء التي بدأت مبكراً واعطت عطاء باهراً.. فكانت مواهبها واعدة بالكثير.. ولكن حياتنا الثقافية الفقيرة هذه لم تعطها فرصتها لكي تكبر وتضئ الآفاق محلياً وعالمياً. أما الاسماء الكبيرة، التي واصلت جهدها.. من امثال حسن نجيلة أو منصور خالد أو صلاح أحمد إبراهيم وعلي المك، وعبدالله علي إبراهيم والطيب صالح ومحمد عبد الحي ومحمد المكي إبراهيم والنور عثمان.. والقائمة تطول. فهؤلاء جميعهم استطاعوا ان يواصلوا مشروع الكتابة وذلك لأنهم اشتغلوا موظفين اما في السلك الدبلوماسي وأما بالتدريس في الجامعات أو المعاهد الثانوية. وهي فضاءات ذات صلة بالكتابة. وهناك ايضاً الادباء الذين اشتغلوا بالصحافة مثل بشير الطيب ومحمود مدني وفضل الله محمد ونبيل غالي ومجذوب عيدروس وأحمد الطيب عبد المكرم وطه الكد والدوش وكثيرون غيرهم. وحتى لا ننسى جهود اولئك المبدعين الذين توقفوا، علينا ان نحي تراثهم باعادة نشره مرة ثانية حتى تستطيع الاجيال الجديدة التعرف عليه، كأن نربط بين الفترات الابداعية بالتوثيق لمسارها التراتبي عبر هذا الانتاج وان نعيد الفترات الابداعية المجهولة والمنسية إلى خارطة القراءة الشاملة لتراث هذه الفترات الابداعية بوصفها عملاً مترابطاً وغير مقطوع عن مساره المتصل والمتواصل. وان نتدارك هذه الصعوبات التي تدفع المبدعين الموهوبين للتوقف وللاعتزال. وهو أمر ميسور وعادل.. وذلك عندما نعطي المبدع حقه الادبي والمادي وان نحيطه بحياة كريمة الاصل فيها هو جهده وعمله. وبذا وحده نستطيع ان نؤسس الكتابة بوصفها مهنة لا بوصفها هواية يزاولها المبدع عندما تواتيه الظروف ويهجرها عندما تحاصره ظروف الحياة. بدون هذه المواقف الجاهدة لا يمكن ان نرقى بالانتاج الابداعي القومي الى مصاف الانتاج الابداعي المعاصر والعالمي. علينا إذاً باستكشاف كل المبدعين المنسيين.. الذين غيبهم الموت أو غيبتهم ظروف الحياة.