في ظروف كتلك التي عاصرناها في مطلع النظام المايوي 1969م، لم تكن معرفة الحقيقة سهلة، وبالتالي صعب الوصول اليها، إن عشرات الروايات عن عشرات الوقائع نقلت عن الكثيرين ولكنها لم تُسجل في حينها، كما أن بعضها طُوي على عجل، الذين كانوا على علم أو معرفة إما آثروا الصمت أو الانزواء أو الخروج وطرحت آنذاك تساؤلات من نوع لماذا القسوة والشطط البالغ تجاه الزعيم إسماعيل الأزهري؟ بدءاً بمحاصرة منزله بأمدرمان بالدبابات وفي حالة استعداد قصوى ومنع وحظر الدخول أو الخروج، واعتقال من أراد الوصول اليه للإطمئنان عليه، ثم اعتبر التحفظ القسري عليه في منزله ترفاً لا ينبغي أن ينعم به ونُقل الى سجن كوبر بالخرطوم بحري ووضعت عراقيل أو تحفظات أمام أسرته لزيارته والوصول اليه مما دفع الزعيم الأزهري الى طلب إدارة السجون للإعتذار عن زيارته ومنع أسرته للحيلولة دون لجوئها لتصديق زيارته لتقابل بالرفض أو التأجيل. وعندما نُقل في مساء «19 أغسطس 1969م» الى القسم الجنوبي بمستشفى الخرطوم منعت زيارته بعد أن وضع في خيمة الأوكسجين ووضع الحرس الأمني أمام حجرته ليمنع الاقتراب أو السؤال أو الاستفسار عن صحته. ومنذ ذلك الزمن في أغسطس 1969م وحتى أغسطس 2009م، أي بعد اربعين سنة ظل التساؤل يدق بشدة: هل من قصد متعمد يجافي الأصول والمباديء والإرث السوداني والإنساني في التعامل مع الزعيم إسماعيل الأزهري بوجه خاص وقيادات الحزب الاتحادي الديمقراطي التي أخذت البيانات الرسمية عبر الإذاعة والتلفزيون تناشد المواطنين للإبلاغ عنهم في حالة معرفة أماكنهم للقبض عليهم وزجهم مع آخرين في سجون العاصمة، وبالطبع فإن الاستنكار والرفض القوي من جانب المواطنين لهذه النداءات المستفزة لا يخطئها البصر أبداً، لقد فعلوا العكس تماماً، فإن قيادات الحزب الاتحادي الديمقراطي التي كانت مطلوبة بالنسبة لأجهزة النظام الجديد، كانت في الواقع تُحظى بالضيافة والحماية في كل بيت، وتتوافر لها المعلومات والإتصالات والنقل من مكان الى آخر دون خوف أو خشية. وعودة لملابسات وظروف وفاة الزعيم الازهري في عصر يوم «27 أغسطس 1969م» إذ جاءته نوبة قلبية في القسم الجنوبي بمستشفى الخرطوم الذي شهد له بالكفاءة والخبرة والعناية، ونفدت أنبوبة الأوكسجين، وأحضرت اخرى وظهر أنها فارغة، وأسلم الروح الى بارئها. ووقتها قال أكثر من مصدر قريب ولعلها السيدة حرمه، لو أن أنبوبة الأوكسجين لم تكن فارغة لأمكن إنقاذ حياته، أو لو أنه استجيب لطلب الأسرة بنقله للعلاج في مصر أو بريطانيا- وهذا مطلب وحق للأسرة والزعيم الذي أسس الحكم الوطني على التضحية والتجرد والبذل- لتيسر علاجه وإنقاذه، إن أحداً لا يجادل في القدر والأجل والموت، فإذا جاء فهو نافذ سواء هنا أو هناك، ولكن ما هو مطلوب أغفل عن عمد وغل. وكان المريض الزعيم الأزهري الذي أعلن السيادة والاستقلال من داخل البرلمان، وكان السيد بابكر عوض الله نائب رئيس مجلس النظام الجديد «25 مايو 1969م» ورئىس الوزراء ووزير الخارجية والذي اختاره الزعيم الازهري ورشحه ليكون أول رئيس لبرلمان سوداني منتخب، وآنذاك كان السيد بابكر عوض الله قاضياً في مدينة الأبيض، وقد استقبله الأزهري ومبارك زروق في محطة السكة الحديد بالخرطوم ونقلاه الى منزله تكريماً لمكانته كأول رئيس لبرلمان السودان، وكان بمقدوره وصلاحياته الواسعة تجهيز طائرة خاصة لنقل الأزهري الى القاهرة أو لندن أو جنيف، ونقل عنه أنه طلب معاملته كغيره من المرضى ونزلاء المستشفى. ثم يأتي الوجه الآخر للقسوة والغل في كيفية إعلان وفاته والحيثيات والوقائع وحدها أكثر إفصاحاً.