يلفت النظر في قرارات مفوضية البترول الصادرة يوم الاربعاء الماضي انها جاءت بعد إجتماعها لأول مرة في غضون عامين مع وجود إشارات على تدعيم لإتجاه العمل المشترك والتعاون بين شريكي نيفاشا خاصة والمفوضية يترأسها معاً كل من رئيس الجمهورية ونائبه الأول وتضم أعضاء مناصفة من الجانبين، رغم ان اتفاقية قسمة السلطة تعلي من نصيب المؤتمر الوطني. ويلفت النظر كذلك في القرارات الثلاثة المتخذة انها أما جاءت استجابة لمبادرة من حكومة الجنوب أو استيعاباً لبعض مطالب قديمة لجوبا. فالقرار الأول يؤكد على انسحاب شركة النيل الأبيض للعمليات البترولية من مربع (5- ب) وتحويله بالكامل الى شركة أسكوم المولدافية. وخبر انسحاب الشركة ليس جديدا خاصة بعد النتائج المخيبة للآمال التي حققتها الشركة الهندية ولندين السويدية، وهما شريكان في الكونسورتيوم ومعهما بترناس الماليزية. اذ تم حفر آبار جاءت نتائجها جافة. دخول أسكوم ميدان التنقيب عن البترول في السودان جاء قبيل توقيع اتفاقية السلام الشامل وعن طريق الحركة الشعبية لتصبح عنصر خلاف بين الشريكين وتنضم الى شركة بريطانية صغيرة وأخرى أمريكية سمحت لهما الحركة بالعمل من باب سيطرتها على الأرض وقتها، لكن في أجتماع مفوضية البترول في يونيو من العام 2007 تم حسم هذا النزاع، حيث أستبعدت الشركة البريطانية المسماة النيل الأبيض من المربع المخصص لشركة توتال، بينما تم الإحتفاظ بشركة أسكوم وأعطاؤها حصة، وذلك لما أبرزته من جدية في العمل. ومن ناحية ثانية فإن تخلي شركة النيل الأبيض عن هذا المربع ليس أمرا جديدا، اذ هو منصوص عليه في الإتفاقيات، وتم تنفيذه جزئيا في مربع (6) جنوبي كردفان مثلا من قبل شركة النفط الوطنية الصينية، التي لا تزال تعمل هناك، بل وأكتشفت نفطا ذا نوعية أجود. لكن الملاحظة الأساسية انه بعد التخلي من قبل شركات كبرى يعطى الأمتياز لشركات أصغر أقل قدرة وأمكانيات، لكنها أكثر طموحا. وما يجري في بحر الشمال خير مثال على ذلك. ومع ان أسكوم نفسها حفرت ثلاثة آبار كانت جافة بدورها في هذا المربع، لكن توليها مسؤولية المربع لوحدها وبدون نزاع بين بين طرفي الحكم في الشمال والجنوب، يعزز من صورتها ووضعيتها في عالم الصناعة النفطية، خاصة وهي شركة صغيرة وجديدة على الساحة اذ تأسست في العام 1994 ولها نشاط في جمهوريتي كازخستان وتركمانستان، وإنتاجها النفطي لا يتجاوز نصف مليون طن وعائداتها السنوية في حدود نصف مليون دولار. القرار الثاني الذي اتخذته المفوضية اعتماد مربع جديد، نتيجة لإقتراح قدمته حكومة الجنوب، وهو ما يرفع عدد المربعات الى 23، كلها تم تخصيصها لشركات مختلفة، ما عدا مربعي (10) و (12- ب) وهما في مرحلة الترويج. كما يلفت النظر في القرار انه أتجه الى تكوين لجنة مشتركة من الوزارة الفيدرالية ووزارة النفط في حكومة الجنوب للإتصال بالشركات الراغبة، وهما شركتان أسبانيتان، والنظر في مختلف الجوانب الخاصة بالتفاوض من فنية الى مالية. وتعتبر هذه الخطوة نقلة عملية من الجدل النظري الذي ساد بين الشريكين حول وضعية المفوضية وكيفية أدائها لعملها، وذلك على خلفية أول نزاع بين الشريكين حول الحقائب الوزارية وأيلولة وزارة الطاقة الى المؤتمر الوطني. وبهذا القرار يصل الشريكان الى وضع يتقاسمان فيه الجوانب الإجرائية من الإعداد للمفاوضات الى أجرائها ثم التوصية بشأنها للمفوضية لاتخاذ القرار. القرار الثالث يخص مربع (ب) الممنوح للكونسورتيوم الذي تقوده شركة توتال الفرنسية ولم تقم فيه بنشاط يذكر رغم مضي عامين على حسم النزاع مع الشركة البريطانية لصالح توتال، كما لم يحدث تطور في التوصل الى شريك يحل محل شركة ماراثون الأمريكية، التي لا تستطيع العمل في السودان لأسباب تتعلق بالمقاطعة الأمريكية. وكان يعتقد ان الحصة الباقية التي تبلغ 20 في المائة بعد إعادة هيكلة الأسهم يمكن أن تذهب الى شركة (مبادلة) الأماراتية التي اعتبرت شريكا ملائما، لكن لم يحدث شىء طوال هذه الفترة، وهو ما كان يتطلب حسما سياسيا من قبل المفوضية. لكن يلفت النظر في القرار كذلك انه حمل شركة توتال مسؤولية تعويض الشركة البريطانية عما أنفقته أثناء نشاطها في هذا المربع، وكان القرار السابق المتخذ قبل عامين يتحدث عن تعويض لم يحدد حجمه ولا الجهة التي ستتحمله.، كما انه ليس واضحا اذا كان القرار قد تم بالتفاهم مع توتال أم سيتم تسويقه لها فيما بعد. يمكن القول بشىء من التفاؤل الحذر ان قرارات المفوضية الأخيرة تمثل لبنة على طريق بناء الثقة بين الشريكين وذلك في مقابل الخلافات المتناسلة حول الانتخابات والتعداد وقانون الاستفتاء وغيرها. وفي واقع الأمر فأن وضع الصناعة النفطية يفرض عليهما العمل معاً، وليس أفضل من تحقيق ذلك على الأتفاق على خطوات مشتركة للعمل. فعائدات النفط تمثل ركنا أساسيا للحكومة المركزية والمصدر الوحيد تقريبا لحكومة الجنوب. ولهذا فأن أي تعطيل أو وضع للعراقيل يصبح مغامرة لا يمكن المضي فيها. ثم هناك حقيقة ان الاحتياطيات أو ما يعرف بميدان العمليات الأمامية من استكشاف وتنقيب وتطوير يوجد الجزء الأعظم منه في الجنوب، بينما النشاط الخاص بالعمليات النهائية من خطوط الأنابيب التي تنقل النفط الى الأسواق الخارجية والمصافي التي تلبي الاحتياجات المحلية والمخازن موجودة في الشمال، لذا حتى لو حدث انفصال فلا مفر من تعاون الطرفين فيما يخص الصناعة النفطية وذلك خدمة لمصالحهما المالية المباشرة. ولهذا فكلما زاد العمل المشترك بينهما واتسعت مساحات الثقة كلما كان ذلك أفيد لأكتساب جرأة أكبر في التصدي للعديد من القضايا التي لا تزال بالصناعة النفطية في السودان وعلى رأسها تحقيق شىء من الإنطلاق في مربع (ب)، حيث توجد شركة توتال، وهي الشركة النفطية الغربية الرئيسية في السودان، وربما التوصل الى تفاهم مع شركة (مبادلة) الأماراتية، التي ستشكل اضافة من باب انها تنطلق من دولة لها تراث في الصناعة النفطية، وفوق هذا انها مهتمة بمجال الطاقة المتجددة، وهذا مجال يحتاج السودان لحث الخطى فيه.