ورد في الحلقة الماضية مراحل تكوين الإمبراطورية الإثيوبية على يد المؤسس منليك ( 1869 - 1913) وكيف تمت الإطاحة بولي عهده وصاحب العرش ليج إياسو ، لأنه جهر بإسلامه مما عد خروجاً على مقومات مشروع القومية الإثيوبية التي قامت على اللغة الأمهرية والعقيدة الإرثوذكسية وأسطورة الدماء المقدسة التي تجري في عروق ملوك إثيوبيا من الأمهرة ، وتمت تصفية ليج أياسو في عام 1936م وقبل الاحتلال الإيطالي لإثيوبيا حتى لا يتقوى موقف الإيطاليين في إثيوبيا بإعادة ليج إياسو علماً بأن الإمبراطور هيلاسلاسي الذي اعدم ليج إياسو متزوج من شقيقته. ثم أعاده هيلاسلاسي لعرشه ، كما هو معروف بالدعم البريطاني الذي كان أساسه قوات دفاع السودان في عام 1941م ، ونتيجة لهزيمة الإيطاليين وخروجهم من إرتريا أصبحت أرتريا في وصاية الأممالمتحدة ، التي تكرمت في منحها إدارة ذاتية في إطار إمبراطورية هيلاسلاسي ، ربما تكفيراً عن عقدة ذنب عصبة الأمم ، التي غضت الطرف عن احتلال إيطاليا لإثيوبيا ، خوفا من انحياز موسليني لهتلر ، ولكن حدث ذلك ، حينما اجتاح هتلر التخوم الأوروبية المحاذية لألمانيا لتندلع الحرب العالمية الثانية وفي إطار الحرب تبرأ المجتمع الدولي من تأييده لغزو موسليني لإثيوبيا. ما يهم وجد الإمبراطور هيلاسلاسي - ومعنى اسمه- قوة الثلاثي الأب والابن وروح القدس، وإلا فإن اسمه الحقيقي رأس تفري ماكونني ، حكم الإمبراطور هيلاسلاسي إثيوبيا بقوة الحديد والنار ولمدة خمسين عاماً ( 1924- 1974) وكان أصعب ما واجه من القومية الإرترية ، التي أعلنت الحرب عليه ، نتيجة لضمه لإرتريا وإلغائه للحكم الفيدرالي وإبطاله للغة العربية في عام 1962م ، ثم ما لبت أن التهب مد القومية الصومالية بعد قيام دولة الصومال في عام 1960م واتخاذها علماً به خمسة نجوم إشارة إلى أقاليم الصومال الخمسة التي يقوم عليها الصومال الكبير - وهي في ذلك الوقت صومال مقديشو ( أي جنوب الصومال ) وصومال هرجيسا أي شمال وشرق الصومال ، وأرض العيسى والعفر ، أي جيبوتي ، والأوجادين أي شرق إثيوبيا أو ما يسمى بالإقليم الخامس الآن ، والمنطقة الحدودية الشرقية الكينية وتعادل أكثر من ثلث كينيا الحالية . واحترقت إثيوبيا شرقا وغربا وأصبح السودان جزءا من هذه الحرب ، لأن شرق السودان موصول بالنسيج البشري الإرتري وبالبحيرة السكانية والجغرافيا والتاريخ ، كما أن السودان ظل موصولا بالنخب الصومالية التي درس بعضها بالسودان ، لذا لا عجب أن أصبح السودان مقراً لمؤتمر المصالحة الصومالية الإثيوبية عام 1962م بعد الحرب الأولى بين الصومال وإثيوبيا. وكرد فعل للمساندة التي وجدها الأرتريون أخذت إثيوبيا في مساندة حركة تمرد أنانيا الأولى في جنوب السودان وحينما نجح السودانيون في الإطاحة بنظام الرئيس الراحل الفريق إبراهيم عبود وعلق شعارات الديمقراطية والشعارات الجديدة الداعية للثورة والحرية وبرزت حركات اليساريين بزخمها وخطاب الإسلاميين العابر للحدود وتأثرت نخب القرن بهذا الخطاب وتشققت نخب القرن الإفريقي ما بين إسلامي ويساري وجهوي وكل يدعو لثورة على طريقته - وانعكس ذلك الصراع السوداني - السوداني في قضية السلاح الإرتري الذي كان إيطالياً فوقف إلى جانب إرتريا المرحومان ابوالقاسم حاج حمد والرشيد الطاهر ومحمد جبارة العوض وإلى جانب إثيوبيا السيد الصادق المهدي وأركان حربه ، وانتقلت أمراض التشظي العقدي والقبلي من السودان إلى الثورة الإرترية وإلى الحركات النخبوية الإثيوبية كالحزب الثوري الديمقراطي الإثيوبي وحزب عموم شعب إثيوبيا وغيرها. وحينما اضطر السودان إلى غل يد الثورة الإرترية في خواتيم السبعينيات كانت هدية الإمبراطور هيلاسلاسي إنجاح مشروع مصالحة نظام نميري مع حركة انانيا بقيادة اللواء جوزيف لاقو ومشروع الحكم الذاتي لجنوب السودان المعروف بإتفاقية اديس أبابا ومع أن السودان ارتاح جنوباً بعد تكبيل يد الثورة الإرترية شرقاً ولكن النظام الحليف في إثيوبيا كان قد شاخ وأصبح الإمبراطور هيلاسلاسي غير قادر على ضبط الأمور وأفلتت الأمور بإضراب صغير بدأه سائقو التاكسي ثم ما لبث أن أعقبه تمرد الوحدات العسكرية ثم ما لبث أن استولى العسكريون على السلطة فيما عرُف بالإنقلاب المتسلق الذي قاده الضباط الصغار تحت واجهة ضابط له جذور إرترية وخدم في السودان يسمى أمان عندوم وما لبث أن أطيح به واغتيل لمصلحة ضابط آخر يسمى تفري بنتي وأطيح بالآخر واغتيل لمصلحة اوكيلو لينتهي الأمر إلى ضابط متأمهر صغير محب لسفك الدماء اسمه منجستو هيلامريام وينحدر من قبيلة الشنغلا وهي القبيلة التي كانت ينبوعاً للرق في إثيوبيا . وتقطن في منطقة بني شنقول ، متاخمة للحدود السودانية . استهل ضباط الثورة المتسلقة ، ثورتهم بإلقاء القبض على الإمبراطور هيلاسلاسي واقتادوه للسجن في عربة فلكسواجن ، ثم بعد فترة قتلوه ودفنوه في دورة مياه مهجورة - هكذا انتهت حياة المؤسس الثاني للإمبراطورية الإثيوبية سليل يهوذا الذي تجري فيه الدماء المقدسة ، وحينما اعتلى الضابط منجستو هيلا مريام عرش إثيوبيا في عام 1977م استهل عهده بأيام داميات إذ تمت تصفية النخب اليسارية التي ظلت تقود المقاومة السرية ضد نظام الإمبراطور - وما يبدو أن هذه التصفية قامت على أسس عرقية وجهوية لأن هذه الحركات كانت تضم نخباً أورومية وأرترية وكان هناك خوف من صعود هذه النخب كما أنها تملك مشروعية ثقافية وسياسية أساسها المقاومة لنظام الإمبراطور، بينما أرادها منجستو عسكرية،عمالية ماركسية . أسس الرئيس منجستو حزب العمال ، كأساس للمشروعية السياسية وبدأ حملة النجم الساطع لتدمير الثورة الإريترية وتوسع في بناء السجون ونصب المشانق ، ووجد منجستو في الزعيم السوداني جون قرنق نعم الحليف لمناوئة نظام الرئيس نميري ومنح ثوار جنوب السودان إذاعة كاملة وفتح لهم مخازن السلاح وخصص قسم العلوم السياسية في جامعة أديس أبابا لتأهيل الكوادر على الإشتراكية المادية ، كما مكن جون قرنق من خصومه الإنفصاليين بما فيهم حركة أنانيا (2) وجوزيف أدهو، لأنه أرادها حركة إشتراكية علمانية، لأن إنفصال جنوب السودان سيقود إلى تمزق إثيوبيا ، بقيام دولة أرترية وأخرى صومالية وأخرى في جنوب إثيوبيا حيث السيداما والادك والأنواك والنوير وقبائل بني شنقول . وعلى بطش الآلة العسكرية والإستخبارية وجيشه المليوني ، إلا أن تحالف الثوار ثم الجفاف والتصحر الذي ضرب شمال إثيوبيا وشرقها كشف عورة النظام الإشتراكي وزحف الملايين من الإثيوبيين الجوعى في عام 1985م نحو السودان ، وبينما كان الجوع يحصد الإثيوبيين كان منجستو يجمع في السلاح لهزيمة الإرتريين، ولكن ما لبثت أن تكونت الجبهة الثورية الديمقراطية لتحرير إثيوبيا ونجحت في يونيو 1991م في الإطاحة بنظام منجستو .. وفي المرة القادمة نواصل..