اضطر الحزب الاتحادى الديمقراطى الاصل بسرعة غير معهودة لنفى ان يكون رئيسة مولانا السيد محمد عثمان الميرغنى مرشحاً لانتخابات رئاسة الجمهورية المقررة فى ابريل من العام المقبل. وكانت عدة صحف محلية وقنوات فضائية واجهزة اعلام عربية ومنتديات إسفيرية سودانية ذكرت مطلع الاسبوع فى اطار رصدها لمؤتمر للحزب بالخرطوم يوم السبت الخامس من سبتمبر الجارى ان الاتحادى اعتمد السيد الميرغنى مرشحاً له لرئاسة الجمهورية. وجاء النفى على لسان زعيم الحزب نفسه قبل مضى (48) ساعة على تداول النبأ على نطاق عربى واسع وذلك استشعاراً منه للتداعيات السلبية المترتبة على ترك هذه المعلومة معلقة حتى ولو من باب المناورة السياسية. فالأولوية بالنسبة للحزب وقيادته فى هذه المرحلة ( محور المؤتمر الصحفى) نداء الوحدة الوطنية الموجهة لكل قطاعات الشعب السودانى فى الشمال والجنوب. وطرح طه علي البشير - امين القطاع السياسى - فى الحزب خلال المؤتمر الصحفى نص نداء الوحدة الوطنية الذى اكد (ان الازمات الوطنية المستفحلة لا يمكن ايجاد حل دائم وعادل لها إلا من خلال الحوار الوطنى الجاد والمسؤول بين كافة ابناء الوطن، وفى هذا الصدد فإن الحزب يثمن مبادرة رئيسه الميرغنى للوفاق الوطنى الشامل، وينادى الحزب بالشروع فى حوار وطنى سودانى تشارك فيه كل القوى السياسية السودانية وتحضره دول الجوار السودانى المهتمة بوحدة السودان، ويعقد بأقرب فرصة ممكنة ويستكمل مهامة قبل نهاية العام الحالى 2009 وتتاح الفرصة كاملة للقوى السياسية لطرح رؤاها حول الوحدة وصولاً الى إقرار حل مجمع عليه لمعالجة الازمات الوطنية). ولا شك ان تسرب ما يشى ان الحزب اعلن الميرغنى مرشحاً فى ذات المؤتمر كما نقلت بعض اجهزة الاعلام ينسف الفكرة المحورية فى استراتيجية الحزب التى كشف النقاب عنها طه وحاتم السر (الاخير إحد إقرب الرجال القلائل من الميرغنى) والرامية الى جمع إهل السودان للاتفاق على أسس حماية البلاد من التمزق والحفاظ على وحدتها. وكانت مسارعة الحزب لنفى النبأ فى محلها ووقتها المناسبين لان تركيز المراقبين السياسيين انصرف عن الاهتمام بنداء الوحدة الوطنية وانصب جل الاعتناء (بترشيح الحزب لزعيمه منافساً للبشير) وكان لا بد من اعادة الاضواء نحو القضية المركزية للحزب فى المرحلة المقبلة على لسان الزعيم الذى قال هذه ليست القضية، فالقضية الآن فى استقرار السودان وحل مشاكله قبل التفكير فيمن يترشح لرئاسة الجمهورية فهذا امر يأتى فى وقته وحينه. وقد تسلل نبأ اعتماد الحزب لزعيمه لانتخابات الرئاسة لاجهزة الاعلام عبر سؤال فى المؤتمر الصحفى عما إذا كان الميرغنى اعلن دعمه لترشيح البشير فى انتخابات الرئاسة فقال طه: (ان هذا غير صحيح وان الحزب اتخذ قراراً بخصوص الانتخابات ينص على خوضها على كافة المستويات، هذا بجانب ترشيح قواعد الحزب فى بعض المؤتمرات للميرغنى لرئاسة الجمهورية). ولم يقل طه ان رئاسة الحزب قبلت برأى (بعض) هذه القواعد. وليس واضحاً ما إذا كان اهمال اجهزة الاعلام لنداء الوحدة وتقديم ترشيح الميرغنى عليه محاولة متعمدة لقتل النداء فى مهده او ان سوء تقدير بعض الاعلاميين وقراءتهم الخاطئة للاوضاع الوطنية فى مجملها واوضاع الاتحادى خصوصاً هى السبب فى اعادة ترتيب الاولويات. ولو امعن المراقبون النظر والذين اعتبروا ما جاء من انباء عن ترشيح الميرغنى للرئاسة صحيحاً فى تاريخ الحزب فى ظل رئاسة مولانا لصرفوا النظر عن ملاحقة الرجل فى القاهرة بالاسئلة عما إذا كان بحث مع المسؤولين المصريين ترتيبات ترشيحه. ففى عام 1985 ونتيجة لتكاثر الضغوط الداخلية والخارجية على الاتحادى الديمقراطى ليقدم السيد الميرغنى لتولى منصب رئيس مجلس رأس الدولة الخماسى (رمز السيادة) مقابل تولى السيد (الامام) الصادق المهدى رئاسة الوزراء دفع الميرغنى بشقيقه الاصغر الراحل احمد الميرغنى لتولى هذا المنصب. وهو منصب شرفى رفيع ويلعب فيه الرئيس دور الحكم بين مؤسسات الدولة المختلفة وهو يملك ولا يحكم، ولا يتعرض غالباً للنقد او اى نوع من انواع الهجوم الذى يوجه فى مثل هذا النظام لرئيس الوزراء ونواب الشعب فى المجالس التشريعية، فاذا كان الميرغنى الكبير رفض هذا المنصب المريح نسبياً مقارنة مع منصب الرئيس فى النظام الرئاسى الذى يتحمل فيه الرئيس كافة المسؤوليات السياسية والتنفيذية فهو - اى السيد الميرغنى - ليس مستعداً للمغامرة بمكانته الدينية فى دهاليز السياسة فى مستوياتها الخطيرة (العمل التنفيذى) فهو ان ربح سياسياً سيخسر مكانته الدينية فالناقدون والساخطون وهم كثر فى السودان لن يوفروا صفة سالبة إلا وألصقوها به. قد يرى عدد من المراقبين ان الميرغنى عرض مكانته الدينية للخطر عندما ترأس التجمع الوطنى بالاضافة لرئاسته للحزب الاتحادى اعتباراً من عام 95 ، وتعرض حينها لانتقادات لاذعة ولكن الحقيقة التى لا ينبغى ان تغيب عن احد أنه تعرض للهجوم فى وقت لم تترك فيه الانقاذ زعيماً محلياً أو اقليمياً إلا وزلقته بلسان منسوبيها. أما على المستوى السياسى فالحزب ليس من دعاة النظام الرئاسى الذى يتولى فيه رئيس الدولة السلطات التنفيذية ولا يزال الحزب حتى اليوم يطالب بشكل مستمر وكلما تأزمت الاوضاع السياسية بالعودة إلى النظام البرلمانى الذى ينتخب فيه البرلمان رئيس واعضاء مجلس رأس الدولة ورئيس الوزراء. وبالاضافة الى هذا الموقف المبدئى فان إعادة أجهزة الإعلام ترتيب أولويات الحزب ينسف جهداً او عملاً مضنيين انكب عليهما قادة الحزب خلال الاشهر القليلة الماضية فى هدوء لرسم خارطة طريق أقل ما يقال فيها إنها تستهدف ازالة الاحتقان السياسى الذى يسبق الانتخابات والاستفتاء على حق تقرير المصير وهو جهد يتكامل ولا يتعارض مع اعلان المبادئ الذى وقعه حزب الامة القومى والحركة الشعبية فى جوبا يوم السبت الخامس من سبتمبر. ويفتح الاتفاق على الأسس الرئيسية للبرنامجين الباب أمام كل القوى السياسية لاعداد برامجها بهدوء وتحديد ملامح التحالفات التى تسبق او تعقب الانتخابات. بقى ان نلاحظ مستصحبين النداء ورد فعل مولانا الميرغنى على أنباء ترشيحه ان الحزب اعاد ترتيب البيت من الداخل وربما ما تبقى لن يتجاوز الرتوش الصغيرة ( الخلافة الدينية والنيابة السياسية) ففى حالات كثيرة سابقة كان كل عضو فى الحزب يحق له افتراع موقف سياسى مدعياً انه خط الزعيم. فالموقف الآن واضح واستراتيجية الحزب قائمة على لاءات الميرغنى واهمها سياسياً لا عداء للمؤتمر الوطنى، فى وقت فيه القنوات مفتوحة مع الحركة الشعبية (باقان) والعلاقة مع حزب الأمة القومى يحتمها التاريخ، والوسطية المشتركة، اما بقية الاحزاب ذات الطابع اليسارى فينطبق عليها قول السيد علي الميرغنى - طيب الله ثراه - عن الراحل عبدالخالق محجوب (مش ولدنا). وقصة هذه العبارة كما حكاها الاستاذ احمد السيد حمد القيادى المخضرم فى الاتحادى ان الامين العام للحزب الشيوعى عبدالخالق كان مطلوباً للسلطات فى ستينيات القرن الماضى (فترة عبود) فدبر له اعضاء حزب الشعب الديمقراطى الذى كان يرعاه السيد علي مخبأ آمناً وابلغوا راعيهم بتصرفهم هذا فأثنى عليه وقال تلك العبارة الصوفية الموحية البليغة.