دخلت السيارة السوداء التي تحمل لوحة دبلوماسية صفراء بوابة منزلي الجبلي، كنت اقف في الشرفة انتظر ان تنفتح الابواب لتطل من جوف الحديد الاسود الجميل ثلاث قامات فارهة، الأولى لصديقي سفير السودان في بيروت (كاب الرفيق) والثانية للصديق اللبناني الطيب (منذر سماقيه)، اما القامة الثالثة فكانت لرجل يمنحك في اطلالته الأولى هدوءاً يمور بشتى اللغات، انها القامة السودانية التي يتكثف فيها المعنى كما يتكثف العمر ليبقى الطفولة برقعا ازليا على الوجه الذي يقدم ابتسامة كمقدمة الكلام. ---- كان الفنان السوداني الكبير الدكتور أحمد عبد العال، يحمل مجموعة من الاعمال التصويرية الورقية، لم ار لغة تصويرية متوازنة بمستواها، ولم اتعرف يوماً على مجموعة اعمال رسمت ذاتها كقوة ادراك قصدية تتمادى بهذه الثقة صوب العفوية التي تفصح عن الزمان السوداني في مضمون مكانه الانساني. وعبر السنين كان الفنان الدكتور أحمد عبد العال ينغرز اعمق في تربة وعيي النقدي بمجمل نتاجه، حتى اقتنعت اخيرا انه لا مفر من شطره الي حضورين متعاضدين ليكونا شخصية المفكر الذي يرسم. شخصية الكاتب الذي يموسق نصه الكتابي ليتلوه علي ذاته بصوت مسموع اولاً، لذلك يجيء النص ناضجاً بقدر هائل من العذوبة لكنها عذوبة تمتلك عمقاً بمستوى السؤال المصيري، انه الاقرب الي اللغة الصوفية حيث المقامات عبر النص تصير احوالاً، وحيث الاشارة تعطي مدلولات باطنية تتجاوز كل سطوعها المباشر. ففي مقام الري يكتب في كتابه الاخير الذي اسماه امشاج.. وقائع من حضرة الخيال.. (... لقد وصلت متأخراً يا بني.. صرفتك عنا النزهة في مقام التلوين، وتعددت امام عينيك المسالك في حدائق الاشكال والالوان، ناديتك قبل نشر القلوع فتشاغلت عنا بالبنفسج والارجوان واللازورد. ولما أوغل بنا السفين في ثبج اليم رزيناك تلوح وتنادي فكان ما كان.. انتسب لنادي الماء علك تروى)!!. في هذه الكلمات القليلة، وفي نص مكثف يطرح المسافة بين ارادتي الرسم والكتابة، انه يري في انتسابه لنادي الماء، نادي هذا الكائن المشترك الذي ترتشف منه جميع المخلوقات الحية، هذه الوحدة الواحدة المذاق لأن لا مذاق لها، والواحدة اللون لان لا لون لها، وحدة الصفة المائية الجامعة، هي التي تصلح ان تتحول الى حضور اجتماعي يكون هو الاتفاق الأول بين جميع بني البشر علي قاسم مشترك اسمه الماء، وهذا الاتفاق المبدئي لا بد وان يتبعه أكثر من اتفاق على الهواء والارض، فيما الاساس السابق لكل هذه المسلمات هو الاقرار بوحدة الانتماء الحياتي الى اسباب الحياة حيث كل اتفاق وجداني هو اعتراف صريح بوحدانية الخالق. إذن أحمد عبد العال يكتب لنا رسالته الأولى، لأن من واجبه ابتعاث هذه الاشارات وهو الذي تمت في 72 رجب عام 2241هجرية أي 2002 ميلادية مراسم مشيخته علي طريقة السادة «الصادقاب» القادرية وهي احدى الطرق الصوفية المنتشرة في السودان، حيث يأخذ المريد معارفه بوعي مميز يدرك فيه اولاً معنى التفكر في محتوى كلمات الله في كتابه، لان هنالك في الحروف وفي الكلمات والمعاني ما هو اعمق من المقروء، هناك عالم من الرجال والنساء قال عنهم كاتب النص وهو يقدم امشاجه: (وقد يتراءى لك في جذوع الرجال والنساء طلع نضيد وهم يخوضون نهر الرجاءات الطويلة.. نعم هذه وجوه من ظلوا يوقدون قناديل حبهم لعقود وعقود في مصر الفاطمية.. وذاك طيف من ظل واقفاً لقرون على شرفة في اشبيلية يراني بعين خياله ولا يذود عني الضربات، اناديه بين الياس والرجاء واذود عن نفسي بترديد اسمه القديم). هنا تكمن المسافة بين الصورة البصرية والصورة الذهنية، بين المرسوم رسماً والمكتوب نصاً كتابياً، فكلا النصين التصويري والكتابي يمتلك حدود محاكاته فلا عجب ان نقرأ اعتراف عبد العال في مقدمة كتابه اذ يقول: (لقد انحلت عُرى الصور وها انا اسأله إلحافاً في اصائل السلطنة الزرقاء لكنه منشغل عنى برمانة الوجد القديم، يغمسها الفينة بعد الفينة في ملتقى النيلين بالخرطوم). إذن لا بد من ان يتحد النيلان الازرق والابيض فهذه ارض تجمع ولا تفرق، وهؤلاء اصحاب الطرق، ورواد الذكر، ما برحوا يرددون ذكر خالقهم منفصلين عن اجسادهم غائرين في لجج ارواحهم التي اعتقوها في براري الوجد. لكن أحمد عبد العال الذي يمتلك اذناً موسيقية، وعيناً شغوفة باللون والجمال، واصابع تعرف عندما تمسك فرشاة الرسم ان ترسم، بمعنى ادق ان تنفذ بدقة ما يأمر به العقل الواعي الذي كثف الرؤيا والاحاسيس. هذا الفنان سوف يعزز نصه بالصورة بمعنى اوسع سوف يرسم العالم الذي كتبه، فاي تداعيات تلك التي اختزل بها عالم الصور؟!.