و الدنيا نهار قائظ الحر،أخذ (كيس) بلاستيكي يرفرف قليلاً لقلة الهواء وقتها فى طريق (الهميم)، و كأنه يناديه: (عليك بي)،كان الكيس يحتوي أشياء بداخله مرمياً في طريق الهميم محمد الخليفة قارئ الصحف النهم، والمهتم بها،لأمرين تحرك نحو (الكيس)ليعرف ما به ثم يزيحه بعد ذاك عن الطريق، الهميم كان وقتها يسير بالثورة الحارة( 11 ) أمدرمان، وهو من أبناء البطانة منطقة الكاهلي زيدان تحديداً، شاب يعمل بالتجارة ويقتطع من أرباحه اليومية شيئاً لشراء الصحف،هلالابي الهوى، لما كان (الكيس) بين يدي الهميم لمح بطرف عينه ورقاً أصفر اللون بداخله ،لدهشته كان الورق نسختين من صحيفة (الرأي العام) ترجعان لخمسين عاما للوراء أو يزيد قليلا،كان العددان (4810) بتاريخ 19-4-1961، والآخر( 4921) والذي صدر بعده بأيام ، عثوره على أعداد تاريخية من صحيفة يداوم على قراءتها كان بمثابة كنز معرفي ووثائقي وقع بين يديه،يفسر وجود الكيس في قارعة الطريق أنه ربما يكون قد وقع من عربة تنقل مقتنيات أهل منزل رحلوا إلى موقع آخر، فقد كان الراحلون من محبي الأرشفة أو أنهم احتفظوا بالنسختين طيلة هذه السنوات لموضوع منشور بها يهمهم،فالعددان لا يوجدان اللهم إلا فى دار الوثائق. كان عنوان الصحيفة بجانبه تاريخها السابع عشر من الصدور، أما إعلاناتها فقد كانت تسلم للإدارة والاتفاق مباشرة معها حسب ما كتب فى صدر الصحيفة، لم يكن للرياضة متسع صفحات في الخطة التحريرية، وكان الأستاذ محمد سعيد محمد الحسن هو (جوكرها) التحريري في ذلك الوقت، إذ يتصدر اسمه كذا صفحة من صفحاتها ومشرف على تحريرها، أما إخراجها الصحفي فقد كان الخطاطون لهم باع فيه ،مثل الخطاط (مرتضى) الذي يتناوب معه فى كتابة المانشيت والخطوط، خطاط آخر هو (الكرم). فردت الصحيفة مساحات وصفحة أخبار السينما ، وعرض الأفلام بإعلانات جاذبة،فقد كان عصر السينما هو ستينيات القرن الماضي، قبل أن يذهب ألقها هي وقرينها المسرح، وأخبار الفنون والفنانين وقتها متصدرة الأحداث، أبرز ما في العدد( 4921) هو عودة الراحلين وردي و عثمان حسين لحوش الإذاعة بعد خلاف نشب حول الأجور، وكان هناك اهتمام إعلامي بالفنان الصاعد وقتها (عثمان مصطفى) والذي كان يلقب وقتها ب(الليزر)، يبدو أن ظهوره تزامن مع انتشار أشعة الليزر، على غير الآن كان الاهتمام بالأخبار العالمية في الصفحة الأولى المجلوبة من الوكالات الدولية،فمانشيت يتحدث عن (الغموض يكتنف مصير تشومبي)، وبقربه خبر يحتفل بتعيين الأستاذ بشير محمد سعيد كمحرر صحفي بعقد مدته عامان بالأمم المتحدة، بشير وقتها كان على رأس (الأيام)، و (الرأي العام) تحتفي به في صفحتها الأولى وبصورته كمان..فتأمل! من الأخبار الواردة قبل نصف قرن في العددين،أمر بهدم سينما (برمبل) وتحويل موقعها لميدان عام هو حديقة أمدرمان الكبرى الآن.والكويت تطلب من بريطانيا سحب جنودها وتحولها للقوات العربية، الحكم على فتاة شهرين لِ(شتمها) بوليس، محاكمة تاجر باع رطل الزيت بزيادة( 2) مليم وكان التاجر هو (ح.ح) والقاضي هو السيد عبد الرحمن العاقب، اتهام موظف بالتحريض ضد الحكومة..لقد كان يشخبط على الحيطان ويكتب (تسقط الحكومة)، تمت محاكمته بالمادة (4 ر أ) من قانون دفاع السودان مثل الاتهام ضابط البوليس السماني حسن سعد والدفاع المحاميان محمد المشاوي و الطيب محمد ناصر. الهميم قرر الاحتفاظ بالعددين وحسن تغليفهما حتى لا تذهب الأيام بصفحات (الرأي العام)، فى الإعلانات هناك شكر وعرفان صادر من أبناء الشيخ محمد الأمين أبو صالح يشكرون فيه الراحل الفريق عبود وأعيان البلد وقتها لمواساتهم فى عزيز لديهم ، هل يكون هذا سبب الاحتفاظ بالنسختين لنصف قرن ، فضاعا؟