بابتسامة ودودة تشق طريقها برهق بائن وسط ملامح وقورة، كانت تمنح القادمين الى (الرأي العام) تأشيرة دخول الى موانئ مطمئنة وتترك على خطاوي العابرين للطريق المثقل بالحبر والاوراق وهج ذكرى شفيفة لفتاة (سادة) تمنحك القدرة على التماسك مع كوب (شاي) يتقاصر امام روعته تحالف النعناع والقرنفل. عيناها الوقورتان كانتا توقعان على بوابة الصحيفة حضوراً حفياً لم تسلبه دوامة البحث عن لقمة العيش خلف (كانون) الشاي جلال الاحترام ولا بريق العذوبة، فسرعان ما كانت تتحول نسرين بائعة الشاي الى اخت لكل من حولها، ولاتنسى في ذات الوقت ان تترك على ذاكرة العابرين بطاقة تقول (من زارنا حتما يعود وإن تمادى في السفر). إنها نسرين الجيلي (عجوز) فتاة يافعة تسربت من بين ايدينا كما العطر، واختارها الموت اضافة موجعة لدوامة احزاننا على رحيل الاخيار لم يراع عمرها الغض ولا احلامها الكبيرة ولا صغار اختها الذين لايملكون سواها - بعد الله- ولا حب الناس الذي ظلل مسيرة فتاة في عمر الربيع مثلت انقلابا اغبش على كثير من المعايير المخملية، وواجهت الاقدار بعزة وشرف وراهنت على (العرق والضراع) في تحقيق الاحلام الكبيرة والاشواق الفارعة، كادحة من بلادي لم تسلبها نار (الكانون) خاصية الزهور ولم تحرق الايام في ثنايا عمرها الغض القدرة على الاحلام القادمة في اجنحة الغيب والاماني. نسرين،حررت مهنة ست الشاي من الوهن والمفاهيم المبتذلة وجعلت منها وظيفة اجتماعية وانسانية رفيعة، تحصيلها الاكاديمي كان (شرف محاولة) واستفزازاً لسخرية الاقدار التى جعلت منها بائعة شاي بنسبة تصل الى «79%» ووضعتها في (عز الجمر) حين بات التعليم سلعة مكتوب عليها (للاغنياء او الاغبياء فقط). نسرين تحملت اعباء التحصيل بعد الفراغ من يومها المضني في بيع الشاي وتربية الايتام، عندما فشلت نسب الدولة في استيعاب عقلها النقي باحدي كليات الطب الذى كانت تحلم بدراسته، وحينما عرضت عليها الاستفادة من منح الكليات الخاصة راهنت على (عرق الجبين) واجابتني بتهذيب كانت تملك منه مخزونا استراتيجيا يكفي الجميع، انها ستحاول...لان تكليف الآخرين بتسديد فاتورة تعليمها - اياً كانوا- هو الفشل بعينه، وانتهينا الى انها ستعيد الكرة مرة ومرتين حتى تظفر بمقعد في جامعة الخرطوم. ونسرين ذات العمر الربيعي التى لاتجد حرجا في مناداتها ب (عجوز) قسيمة في جلال، جميلة في وقار، جعل منها فتاة (سادة) تخاصم (عدة) المكياج وتراهن على غرة سوداء في جبينها الوضئ لعله من اثر الصبر والسجود. رحلت نسرين وفي خاطر الصبايا لحن جريح جهزنه لزفافها القريب وفي بال الخالات والعمات (نمة) تائهة. وعديلة (مجرتقة) انتظرن بها (العرس) الوشيك، فالجميع كان يدخر لها فرحة ويعيدها اغنية في تراتيل الامنيات لها بالخير الدائم، وانا واحد من كثيرين كنت انتظر لحظة انصاف ل (نسرين) تهدأ فيها من رهق الكدح اليومي وتزين وسامتها المنهكة باحساس التتويج، وكذلك (خالتي عشة) بائعة الشاي النبيلة فقد قصت على من خلف وجه تبلله الدموع: كيف لازمتها نسرين وتركت (الوراها والقداما) حين وضعت احد ابنائها وكيف قامت ب (كل شئ) دون ان يكون بينهما آصرة نسب او جيرة . رحلت نسرين وفي خاطر الغصة حنين ممكون ل (كباية قهوة) من يد شريفة تتقلب بين بيع الشاي والعزف على كيبورد الزميلة (حكايات). فنسرين كانت تمارس مهنة الجمع الالكتروني وقد كنت شاهداً على انها استلفت من وقتها الموزع بين الدراسة و(الكانون ) وتربية الصغار ساعة لتعلم الجمع في مسعى لتوسيع الرزق. اختارت عجوز الرحيل المفاجئ والموت المسكون بكثير من العبر والاسئلة لتؤكد على انها استثنائية في كل شئ، ذهبت الى مستشفي الخرطوم ب (كيس دهني) وعادت لمزاولة عملها غير انه وبعد يومين استعصى الالتفات على جيدها الذى حمل جرحا لم يندمل، قررت مراجعة المستشفي، لكنها عادت على نعش تلفه الحسرة وتبلله ضراعة الدموع، رحلت نسرين لتفتح باباً لكثير من الاستفهامات الحائرة عن حياة مشرقة انتهت بتوقيع على ورقة صفراء تقول ان هبوطا في الدورة الدموية كان سبباً في الرحيل..رحلت لتضيف الى قائمة المظالم (عرضحالاً) جديداً في زمن (الموت المجاني).. نكتبه بمداد دموعنا للسيدة مستشفى الخرطوم (لماذا دخلت نسرين ذات القوام الفارع الى المستشفي سائرة على قدميها لمراجعة جرح التهب فجأة وخرجت محمولة على نعش الغياب الابدي؟؟؟؟).. بمناسبة الذكرى السنوية لرحيلها