تجهد الصحافة نفسها في البحث عن أخطاء و خطايا الحكومة الشمولية , و تتحايل على الرقابة علها تنجح في نشر الإتهامات و المستندات , لكن الصحافة بما فيها صحف الحكومة لا تفكر في فتح ملفات المعارضة رغم دمها المهدر و هي ملفات لا تخلو من مفاسد و إتهامات شبيهة بتلك التي تسرح و تمرح فيها الحكومة . هذه دعوة لا يقصد بها تناول الموضوع و كأن الصحافة منقسمة بين هيئة دفاع و هيئة إتهام في قاعة محكمة , فما هذا دور الصحافة , بل القصد هو النفاذ إلى تقييم موضوعي للطرفين , يغيب الآن بسبب التسييس الزائد . لن يكون منطقياً أن تدافع الحكومة عن نفسها بأن تثبت فساد المعارضين أيضاً , لأن درء تهمة الفساد لن يكون بإلصاق ذات التهمة بالخصم , لكن الصحافة يمكن أن تتناول الأمر من مدخل البحث عن مبدئية الموقف من الفساد عند أطراف السياسة السودانية .. تحدثت المعارضة كثيراً عن فساد نظام نميري , لكن أركان المعارضة أنفسهم كانوا يتهامسون عن الطريقة التي تصرف بها أموال الشريف حسين . و يتحدث المعارضون عن السجون و المعتقلات و بيوت الأشباح في الأنظمة الشمولية , لكن العائدين من المعسكرات يتحدثون عن سجن المقاتلين و تعذيبهم و قتلهم , و عن الأموال التي (نام) بها الزعيم أو الكوماندور .. يبدو من غض الطرف عن أداء المعارضة أن التبشير بالديمقراطية يكفي لإعفاء المبشر من أية مساءلة أو محاسبة , و ليفعل ما يشاء ما دام ديمقراطياً .. و هكذا تتحمل الديمقراطية أوزار المتمسحين بها , و تتحمل مسؤولية تحقيق التنمية و رفع معدلات الإنتاج و رفاه الشعب , رغم أن السياسي المبتدئ يعلم أن الديمقراطية نظام يكفيه أن يتيح بطبيعته الحق الدستوري في الحريات و فرص التنافس المتساوية و تأكيد مبدأ الشفافية و التقاضي أمام قضاء مستقل .. أما رفاه الشعب , فهو هدف يفترض أن تتنافس لتحقيقه الأحزاب في إطار الديمقراطية الرحب . و لن يحققه البرنامج المحتشد بالتنظير الجميل , فالهمة و الجدية روح كل عمل . و بجانب أن الديمقراطية ليست نظاماً سحرياً يقدم المن و السلوى فور سقوط النظام الشمولي , فالديمقراطية ليست مبرئة للمبشرين بها من المساءلة , بل يفترض أن تكون محاسبة المبشرين بالديمقراطية أشد و أقوى حتى لا تتعرض الديمقراطية لطعنة نجلاء من أدعيائها , و يصاب الشعب في كل مرة بالخيبة في الديمقراطية بسبب خطايا هي منها بريئة . الديمقراطية عائدة , لكن لا تحملوا الديمقراطية المسكينة فوق طاقتها .