السرائر الثلاثة المفروشة في حوش شيخ صادق عبد الله عبد الماجد، لا تكفي في بعض الأحيان لضيوفه الكثر، ولذلك وضعت بمحاذاتها العديد من الكراسي البلاستيكية التي يتناوب على الجلوس عليها في مائدة إفطاره البسيطة، كثيرٌ من ضيوف الشيخ وتلامذته وأحبائه الذين لا يشعرون بحاجة للطرق على باب منزله المفتوح أصلاً في ضاحية شمبات.. فالبيت، وصاحبه، والدكتورة نفيسة - حرم شيخ صادق - على أهبة الاستعداد لإكرام أي زائر، وما أكثر الزائرين في بيتهم (المضيوف). فقد سبقني إلى الجلوس في ذات الموضع الذي جلست عليه بمنزل الشيخ، النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه الذي جاء إلى هناك يوم الإثنين الماضي وفي معيته الدكتور عصام أحمد البشير يتقدمهما ودٌ صادق لشيخ صادق، بينما ينثر هو وده بالقسط للجميع. ويشعر كل زائر له بأنه الأقرب إليه، فقد كان يستقبلني بعبارات (أخي الحبيب وابني العزيز) ويودعني بعبارات أكثر دفئاً وهو يربت على كتفي ويمطرني بوابل من الدعوات. (فاطر وين؟) عندما اتصلت بشيخ صادق عبد الله عبد الماجد ظهيرة أمس الأول، بادر بصوته الهادئ الوقور بسؤالي: (الليلة فاطر وين يا ابني؟)، ثم دعاني للإفطار معه قبل أن أخبرة بنيتي في ذلك مسبقاً، قبلت دعوته على الفور وطلبت منه ألا يرهق نفسه بإعداد أصناف إضافية مثلما يفعل البعض، فقال إنه لا يتكلف أصلاً بل يقدم ما هو موجود. وما هو موجود على مائدة شيخ صادق وقتها، كانت أصناف محدودة ولكنها (طاعمة)، فالبشر الذي يلقاك به والوجه الطلق والعصيدة التي صنعت بخبرة (دكتورة) جعلت من مائدته مختلفة تماماً، بينما كان يلح هو في حثي على أن أتناول المزيد من طعامه المبارك بصورة أقرب إلى (التحنيس). وبعد الإفطار أحضر الشاي وسكبه بنفسه في الكوب الفارغ أمامي ونحن نجلس على ذات السرير البسيط الذي جلس عليه قبل أيام النائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه الذي تقاسم معه الأحاديث الباسمة في الأدب الذي لا وجيع له في السودان، وعن الأدباء السودانيين الذين لا يصل إنتاجهم للخارج، وموضوعات انس أخرى لم تطرق ل (س) في السياسة. الدخول إلى الصالون بعد الإفطار، اصطحبني شيخ صادق إلى داخل صالونه العتيق، حيث يوجد مكيف للهواء بعد أن لاحظ سخونة الجو في الخارج ربما. الصالون به (شق) كبير من جهته الغربية يبدو أنه لم يستطع أن يتحمل الكثير من الشهادات التي عُلقت على جدرانه بعد أن منحت في فترات متقاربة لشيخ صادق. وفيما كانت صورة الإمام حسن البنا أبرز الصور التي يعلقها الرجل على جدران صالونه، فإنّ من أشهر الشهادات المعلقة شهادتي دكتوراه فخرية في التربية من جامعتي الخرطوم وأم درمان الإسلامية، مُنحتا له تقديراً لإسهاماته المتميزة وجهودة الكبيرة في مجال الدعوة الإسلامية والصحافة ومشاركته النشطة في الحياة العامة. لاحظت أن شيخ صادق الذي سقط قبل أيام في (الحمام)، أصبح يتحرّك بصعوبة نوعاً ما، فقلت له إنّ عمرك الآن فيما أعلم أكثر من (85) سنة لماذا تصوم في هذا السن وأنت تعلم إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.. أم أنك (زول عزيمة) كما يقولون؟ فقال: هذه مسألة تحدٍ. ثم واصل وهو يبتسم: (أنا زول عزيمة ما زول رخص، واعتبر الصيام حقاً ورضاء الله سبحانه وتعالى حقاً، والحكم بكتاب الله وتعالى حقا، وأشياء كثيرة جداً في حياة الإنسان إذا تأمل فيها يرى أن عليه مسؤولية). قلب يكاد ينفطر صورة حسن البنا المعلقة على الجدران، كانت أول ما استوقفتني، ومنها كانت البداية عن علاقته بمصر وبجماعة الإخوان المسلمين التي بايع حسنها في أربعينيات القرن الماضي. فقد التقى قبل نحو سبعبن عاماً وهو طالبٌ في السنة الثالثة بمدرسة حلوان الثانوية في مصر، بالمرشد حسن البنا بعد أن دعاه طالبٌ زميله يدعى محمود الشربيني عدة مرات لحضور لقاءات يتحدث فيها المرشد، وطلب منه نظم قصيدة شعر احتفاءً بالمرشد لما يعلمه فيه من شاعرية مدسوسة بعد أن تكفل بالصرف عليه لمدة يوم، فكانت القصيدة: دين من الله يهوانا ونهواه وينصر الله من يرعى سجاياه الله أكبر ما زلنا نرددها رغم الطغاة ومن يكفر هديناه نظر شيخ صادق لصورة البنا المعلقة على صالونه، وقال إن حسن البنا لم يكن خطيباً، وإنما كان متحدثاً ينفذ حديثه للقلب مباشرةً، فقد التقى به عدة مرات بعد ذلك الذي أنشد فيه تلك القصيدة داخل مقر إحدى دور السينما المصرية المغلقة. وكانت تلك القصيدة قد قوبلت بموجة من التفاعل والتكبير حيث ضجت قاعة السينما بهتاف (الله أكبر ولله الحمد) ذلك الهتاف الذي أعجب عبد الرحمن نقد الله فنقله لحزب الأمة حسبما قال شيخ صادق. مع الشيوعيين في مصر قال شيخ صادق وهو يحكي لي عن تلك الأيام في أم الدنيا، إنّه عندما قدم للامتحان هو وشقيقه أحمد الإنجليز رفضا ذلك، فهاجرا إلى مصر، وقد تعب كثير جداً لدرجة أنني عدمت ما يقيم به حياته. وقد كان الشيوعيون نشطين جداً في ذلك الوقت ومن قياداتهم التي كانت تدرس هناك عبد الخالق محجوب وأحمد سليمان والطيب عبد الرحمن وعز الدين علي عامر وعبد الخالق محجوب، وذلك بعد فصلهم في السودان وتبنى الأزهري لقضيتهم، حيث كتب للمصريين بضرورة إيجاد فرص لهم لأنهم قاموا بعمل كبير ضد المستعمر. علاقة شيخ صادق القديمة بمصر وجماعة الإخوان المسلمين جعلتني اسأله عن كيف ينظر إلى أحوال جماعة الإخوان المسلمين في رمضان مع أوضاعهم التي لا تسر؟ فقال: (قلبي يكاد ينفطر وأنا تابعت مربع المؤامرة منذ فوز الإخوان وحتى الانقلاب عليهم ولم يخالجني شكٌ في أنهم لن يتركوا عالمياً وداخلياً من العلمانيين. وألقى باللائمة على الدول التي ساندت الوضع غير الشرعي في مصر خاصةً بعض الدول العربية والإعلام الذي يتحدثون بمنتهى قلة الأدب وعدم الاحترام والتقدير لناس ربنا يعلم يقيناً أنهم من أشرف وأصدق من مشى على أرض مصر). وعن محاولة الزج بالسودان في ما يحدث بمصر وتعكير الأجواء بين البلدين؟.. قال شيخ صادق إنّ التأثير يتوقف على حسب الظروف، وأضاف: (السودان قال كلمته الغريبة واعتبر ما يحدث في مصر شأناً داخلياً وهذا خطأ، والحكومة تسرعت في إبداء رأيها قبل أن تتضح الأمور، وكان عليها التريث لأن مسائل الإنقلابات هذه معقدة وليست واضحة). أريحية شيخ صادق أريحية شيخ صادق، ومزاجه المعتدل دون مكيفات أغراني بالانتقال بسرعة من محطة ذكرياته في حيي ود نوباوي والدومة الذي كان لصيقاً جداً بحي ود نوباوي، إلى موضوعات أخرى تنطوي على شئ من الحرج فيما يبدو. ذلك بعد أن قال إنّ ذكرياته في ذلك الحي الأمدرماني عصية على المسح، فهناك تفتح ذهنه على الحياة والدعوة، وهو من أعرق الأحياء وأكثرها ترابطاً بين أفراده وكان يضج بمجموعة كبيرة من الأدباء والشعراء المشهورين. من تلك التساؤلات التي كانت على مشارف الحرج سؤال عمّا إذا كان يشعر بفراغ في حياته، لأنّ الله لم يمن عليه بأبناء أم أنه يشغل نفسه بأشياء أخرى؟ لكنه أقسم بأنه لم يشعر بأن هنالك نقصاً في حياته، ولا يشعر بفراغ، خاصةً وأنّ في طريق الدعوة يعتبر كل من هو أصغر منه واحداً من أبنائه، على حد قوله. قريباً من ذلك، كان هناك سؤالٌ آخرٌ عن كيف ينظر إلى تآكل القيادات الإسلامية في السودان سواء بالمرض أو بالموت مثل ما حدث للشيخ يسين عمر الإمام وقبلهم الشيخ محمد يوسف والشيخ الكاروري والشيخ عبد الله سليمان العوض وآخرين؟ فقال انه ينظر إليه بكل يقين لأن هذا هو أمر الله الذي لا تغيير فيه، وأضاف: (يجب على أي تنظيم أن يضع المفاجآت في الاعتبار فالفقدان سيحدث، متى لا أحدٌ يعرف. لكن عندما يحدث نتأثر بشدة على غياب الأخ الذي كان يملأ خانة لا يملأها أحدٌ آخر). وفي معرض إجابته على سؤال آخر تحدث شيخ صادق بكثير من الإمتنان عن زوجته الدكتورة نفيسة عبد الرحمن حماد، وهي امرأة ملتزمة ولها فضل كبير عليّ وقامت بدورها بالكامل بنسبة (100%) وهي تقريباً أصبحت الأعمدة الأربعة التي جعلته يحافظ على وجودي في الدعوة ويتحمل مسؤوليتها. حسب شهادة شيخ صادق غير المجروحة فيها. ونسة للنشر الطريقة التي سأورد بها إجابات شيخ صادق أدناه تشي إلى تحول الونسة إلى حوار جاد، ولكن ذلك لم يحدث، فقد كان الجو الذي دار فيه كل ذلك الحديث لطيفاً للغاية ولم يخلُ من المزاح في كثير من الأحيان، وإن لم يجدر للنشر: فقد قلت له: من أين تدير أمورك المعيشية شيخ صادق؟ - فقال: نحن كيان لا شبيه له وكل الإخوان يدركون أن عليهم مسؤولية إزاء زيد من الناس وبيننا تعاون كامل لم ينس فيه أحد أحداً. * هذا المنزل الذي تقيم فيه هل هو ملكك؟ - هذا البيت ملك لزوجتي أعطاه لها أخوها كما أعطى أختها المنزل المجاور له. وأقول لك بصدق أنا حتى الآن ليس لديّ بيت، ولا أريده أن يأتيني من أية جهة. * هل يمكن أن نقول إنّ شيخ صادق رجلٌ زاهدٌ؟ - لا أدعي الزهد، فهذه حياتي الفطرية وأنا إنسانٌ بسيط وأحب البساطة في كل شئ. * ما الذي يتمنى شيخ صادق تحقيقه قبل أن يتوفاه الله بعد عمر طويل؟ صمت بُرهةً قبل أن يقول: - أتمنى أن يكون هذا السودان دولة بكل معاني القوة والشرف والأمانة والحرية، ونحن حتى الآن مقومات الدولة الحقيقية التي يعتز بها الإنسان غير متوافرة. وإن شباب السودان يرتفعون بأنفسهم ويثقون في أنفسهم ويحسون بأن الله إن كانوا معه سيكون معهم. *من يزور شيخ صادق في بيته هذه الأيام؟ - لا أستطيع أن أحدد لك، وأنت عندما جئتني ألم تجد الباب مفتوحاً، فالباب مفتوحٌ ويأتيني الكثير من الناس والضيوف مثلما رأيت بنفسك ذلك في الإفطار مع ذلك الرجل الذي وجدته معي، فأنا أحترم الإنسان من حيث هو إنسان بعيداً عن المقاييس الدنيوية. * من يفتقد شيخ صادق؟ - والله يا أخي أنا أقدم العذر لأي زول قبل أن ألوم، ولذلك لا أسمي، وأنا عايش في كنف الإخوان المسلمين كأسرة في منتهى السعادة. * لماذا كنت لا تتقاضى مالاً على مقالاتك وأعمدتك التي كنت تكتبها في الصحافة؟ - اسأل أحمد البلال الطيب. صمت برهة ثم أضاف: وجاءني هنا عادل ابن سيد أحمد خليفة وكانت تربطني به علاقة طيبة وطلب مني التفكير في الكتابة ل «أخبار اليوم» وقال لي لابد أن يكون لديك عطاء في هذا الاتجاه، فقلت له أنا أشترط عليك شرطاً واحداً ألاّ تتحدث لي نهائياً عن إن هذا العمود أو المقال بكذا ولا تأتي لي بسيرة لمقابل مادي، وإذا كنت ستفعل فإنّي سأحسم لك هذا الموضوع منذ الآن بالرفض. * عفواً شيخ صادق فأنت لم تقل لي لماذا لا تتقاضى راتباً على ما كنت تكتبه في الصحف؟ - والله يا أخي الحبيب وابني العزيز، أنا أعتز بك لأني ألمس فيك حيويةً لا ألمسها في الكثيرين الذين يأتون إليّ هنا ويجرون معي حوارات، مع ذلك لا أستطيع أن أعطيك تفسيراً لهذا الأمر، واذكر أنّ أحمد البلال جاءني هنا وقال لي إنّ هذه مسألة طبيعية، فقلت له: (طبيعية مع غيري). * كيف تنظر إلى مستقبل جماعة الإخوان المسلمين هنا في السودان؟ - أنظر إليها باعتبارها الجماعة الرائدة، فقط هنالك أشياء ينبغي أن تدار حتى تكتمل القوة، وأن يأخذوا العبرة مما يجري في مصر. ما تبقى لشيخ صادق وأنا أهم بالخروج من منزله العامر، قلت له: بعد أكثر من (85) عاماً من العطاء الحافل والإسهام في مجال الدعوة ما الذي تبقى لشيخ صادق أن يفعل؟ فقال: (بقي لي أن أتابع الفكر والنظر ببصيرة لما يجري في بلدي، ولن أستطيع أن انفصل عن ذرة من ذرات هذا البلد وما يجري على أرضها، وأحاول ما استطعت بأية وسيلة أن ما استطيع من نصح، ولا أبتغي شكراً من شخص فهذا واجبٌ ودِينٌ، فالوطن دين، وحمايته دين، والإخلاص له دين، والتجرد في حمايته وخدمته دين، وأنا ليست لديّ مهمة غير هذه أستطيع أن أدفع بها أمتي وشعبي وبلدي للأمام). أما أنا، فبقي لي أن أعترف بأن هذا الرجل مختلفٌ، وأنه بالفعل شيخ وصادق وسمح بصورة آسرة. (الله يديك العافية يا شيخ صادق).