كان السؤال الملحاح الذي انفتح في أعقاب الإحتجاجات الأخيرة التي شهدتها الخرطوم يبحث على الدوام عن مكانة الأحزاب السياسية ودورها في قيادة تلك الجماهير وإذ تواترت إفادات ناشطين من الشباب تشكو ضمور دور الأحزاب وفتور حراكها الشعبي فقد تولدت أسئلة أخرى عن أسباب ذلك الغياب أو الضعف في الاستجابة لدعوات الجماهير ومواكبة حراكها.؟ لكن السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة قام يحاول تقديم إجابات على تلك التساؤلات ومن خلال حديث أدلى به المهدي لوكالة الأناضول أقرّ فيه «بأن أحزاب المعارضة غير متفقة ولم تلعب دورا في تنظيم وقيادة الاحتجاجات، الأمر الذي ترتب عليه انحسارها» .. لكنه في ذات الوقت نبّه إلى أن «الحالة الثورية لا تحتاج لاستعداد من الأحزاب كما حدث في السودان مرتين وفي مصر وتونس». بيد أن المهدي وصف الإحتجاجات الشعبية الأخيرة بأنها «لا ترقى لوصفها بالثورة» وإن كان يعتقد بأن «الظروف الموضوعية لاندلاع ثورة في السودان متوافرة» وحذّر المهدي من النتائج الوخيمة التي يمكن أن تظهر نتيجة للإجراءات الإقتصادية إذ يمكن أن تنفجر الأوضاع التي مضت نحو الهدوء بصورة أشد عنفاً حال تعمق فداحة تأثيرات تلك الإجراءات التي لم يصل أثرها الكامل بعد للحالة المعيشية للمواطن وهو يستطرد: «انحسار الاحتجاجات التي اندلعت ضد النظام في 23 من الشهر الماضي إثر رفع الدعم عن الوقود لا يعني أنها انتهت، لأن الإجراءات الاقتصادية التي تسببت فيها لم تظهر آثارها المعيشية بعد، وعندما تظهر ستكون النتائج وخيمة». حالة التدابر التي تعيشها أحزاب المعارضة وأقر بها المهدي أفضت إلى أن تعمل تلك الأحزاب كلها بمعزل عن الآخر وإذ ظل حزب الأمة في حالة شقاق دائم مع قوى تحالف المعارضة لا تكاد العلاقة بينها تستقر على تفاهمات فقد وصف مراقبون في الخرطوم موقف حزب الأمة من الحراك الجماهيري الأخير بأنه موقف يتسق مع سياسة الحزب وزعيمه الذي لا يراهن على أي احتمالات غير محسوبة العواقب، ولكن حساب العواقب دائماً عند المهدي يقتضي أن يكون هو ممسكاً بمقود المبادرات غير منساق خلف قيادة أخرى سواء كانت داخل أطر تحالف قوى المعارضة أم كانت حركة احتجاجات جماهيرية ينشط فيها الشباب والطلاب، وهكذا بحسب المراقبين غاب حزب الأمة وجماهيره وشبابه عن الإحتجاجات الأخيرة إلا من إجتهادات خاصة غير ذات ارتباطات بالمؤسسة الحزبية. من هنا يمكن فهم الانتقادات التي وجهها المهدي إلى الشعارات التي خرج يهتف بها المحتجون والتي هي غالباً شعارات مستلهمة من ثورات الربيع العربي التي انتظمت المنطقة العربية وهكذا وصف المهدي الشعار الأشهر لثورات الربيع العربي (الشعب يريد إسقاط النظام) بأنه «شعار ناقص» لكنه في ذات الوقت يطرح شعاراً بديلاً ذا مغزى ودلالة فالشعار الأجدى لدى الإمام الصادق هو (الشعب يريد نظام جديد)، يقول: «ذلك أفضل حتى يكون التركيز على ما نريده وليس ما لا نريده» ثمّة سؤال آخر يخرج من بين تضاعيف إفادات المهدي إذ يقول: «إن التركيز يجب ان يكون على ما نريد» فما هو ذلك المراد؟ الجواب على هذا السؤال يبدو واحداً عند جميع الأحزاب وإن كانت لا تملك آليات تمكنها من الإفضاء إلى مرادها فإن التصورات تبدو جليّة واضحة على نحو ما يعبّر المحبوب عبد السلام وهو ينظر للدولة السودانية في حالة صيرورتها، تعايشُ حالة الإنتقال منذ الاستقلال يقول: «السودان تضمن الانتقال منذ الاستقلال، كان هناك دستور انتقالي وجاءت أكتوبر لحكم انتقالي لم يكتمل، ثم دخلنا في عهد طويل العهد المايوي ثم جئنا إلى عهد الانتفاضة الذي لم يكتمل فيه التأسيس وإلى حين انفصال الجنوب.. ومازلنا في مرحلة انتقال وتأسيس..» ويجد المحبوب أن هذه التجارب أدعى ما تكون إلى التأمل واقتناص العبر والعظات بما يجنب السودان المزالق والفوضى: «لو اعتبرنا بكل التجارب هذه في أن نجنّب السودان الفوضى، لا سيما أن السودان كيان هش وفيه سلاح وتحتاج مجتمعاته الى علاج عميق وجوهري، إلى مصالحة الكتل المتقاتلة والمتصارعة، كل هذا يجعلنا في وضع أفضل إذا أسسنا لمرحلة انتقالية اعتبرنا فيها بتراثنا وتاريخنا وتأملنا فيها ما يحدث من حولنا ..» دعوة المهدي للتركيز على استشراف المستقبل أكثر من النزعات إلى هدم الحاضر مهما كان بائساً ربما تبدو دعوة متسقة بالفعل مما يحذّر منه المحبوب عبد السلام وهو غياب المشروع التغيير السياسي في خضم ثورة جماهيرية تتفجر بفعل الضنك وعسر المعاش ذلك عنده يجر البلاد إلى عواقب وخيمة يقول: «أنا أغيب عن السودان لأشهر وأعود ولكن ألمس أبدا العسر في المعيشة والغلاء الذي يطحن الناس الآن، الاحتمالات واردة في أن تندلع في السودان ثورة جياع، وهذه من أخطر أنواع الثورات..» ومن هنا يقرأ المحبوب الإجراءات الاقتصادية التي قضت بزيادة أسعار الوقود وبعض السلع الضرورية بأنها تتعلق بقضايا سياسية مثل انفصال الجنوب وضرورة عقد مصالحات بين القوى المتقاتلة والمتصارعة في السودان: «أما بالنسبة لمسألة رفع الدعم: هذه قضية اقتصادية لكنها ذات صلة عميقة بالمواطن ولو أن رفع الدعم هذا حدث قبل عامين لكان موضوعا اقتصادياً يتداول فيه الإقتصاديون وخبراء الموازنات وما إلى ذلك، ولكن بعد انفصال الجنوب وخروج البترول من الدورة الاقتصادية حدث تدهور كبير في قيمة العملة السودانية وهذا التدهور انعكس فوراً على معاش المواطن..» بعد آخر في موقف المهدي من جملة الساحة السياسية التي تموج بالاضطراب تتبدى في قبوله للتعاطي حواراً وتنسيقاً مع طرف آخر مهما بدأ موصولاً بالسلطة وحزبها إلا أن رفعه لشعارات الإصلاح تدفع المهدي لاستصحابه عنصراً مهماً في سبيل الوصول لحلول وطنية شاملة وبالرغم من أن الفصيل الإصلاحي داخل الحزب الوطني يتصل بالتيار الإسلامي الذي انقلب على حكم المهدي نحو خوايتم عقد الثمانين إلا ان المهدي أعلن أنه لا يمانع في التنسيق مع ذلك التيار الإصلاحي بالحزب الحاكم قائلاً أن قادة ذلك التيار: «مؤثرون جداً وناضجون ولديهم إحساس بالوطنية».