عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    نتنياهو يتهم مصر باحتجاز سكان غزة "رهائن" برفضها التعاون    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    بالفيديو.. شاهد أول ظهور لنجم السوشيال ميديا الراحل جوان الخطيب على مواقع التواصل قبل 10 سنوات.. كان من عشاق الفنان أحمد الصادق وظهر وهو يغني بصوت جميل    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    الدفعة الثانية من "رأس الحكمة".. مصر تتسلم 14 مليار دولار    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    صندل: الحرب بين الشعب السوداني الثائر، والمنتفض دوماً، وميليشيات المؤتمر الوطني، وجيش الفلول    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    تقارير تفيد بشجار "قبيح" بين مبابي والخليفي في "حديقة الأمراء"    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزعم بمحاباة الاستعمار لجماعات معينة جارح ومجانب للصواب
السياسة وصراع الهويات في السودان «2-2»

تناول الباحث في الجزء الأول الأسباب الموضوعية لتنافس العرقيات والثقافات ومدى انصهار هذه المجموعات في السودان وأسباب الإنصهار شبه الكامل في بعض الأقاليم. ولعل أكبر دليل ومؤشر على أن العرقيات في السودان ليس بينها خلافات حقيقية عميقة ومستعصية هو أنه على الرغم من الهجرة الكبيرة في مناطق الحرب في جنوب السودان الى مدن وقرى الشمال أو من غرب وشرق السودان الى الوسط والعاصمة أو من الشمال والوسط الى بقية أنحاء السودان بفعل الجفاف والتصحر أو طلب العيش والتي تقدر أعدادها بملايين الأفراد.. إلا أن المعايشة السلمية ظلت على أفضل حال، فلو شعر هؤلاء بأدنى ريبة من أنهم ربما يكونون طرفاً في الحرب وآثارها أو غير مُرحب بهم حتى وهم في أماكنهم الجديدة فإنهم بالتأكيد ماكانوا ليهاجروا هذه الهجرة الواسعة ولاختاروا الدول المجاورة على أقل تقدير كما حدث في بدايات التمرد الأول. ---- وبإجراء مقارنة بين المهاجرين من جنوب السودان أثناء الحرب الأولى «1955 - 1971م» والحرب الثانية «1983 - 2002م» نجد ان الهجرة الى الشمال كانت محدودة في الحرب الأولى وأغلبها كانت الى دول الجوار الافريقي في مؤشر واضح على أن الثقة بين الطرفين كانت شبه معدومة والخوف من الآخر موجود أو متوهم، أما في الحرب الثانية، وبعد فترة سلام امتدت لعقد من الزمان «1972 - 1982م» فقد تحولت الهجرة كلياً الى الشمال فيما يعني ضمنياً ان التوجس من الآخر قد خف عن سابقه كثيراً حتى مع عودة الحرب ربما بأشرس من سابقتها. الإدارة الاستعمارية الجديدة هذا ومن جهة اخرى متصلة بنفس موضوع العرقيات وتنافسها برزت عدة كتابات حمالة أوجه لها دوافع مطلبية وسياسية في غالب الأمر تشير ضمنياً او بطريق غير مباشر الى أن هناك مجموعات عرقية معينة ا ستفادت من الاستعمار سواء أكان استعماراً تركياً مصرياً أو انجليزياً في تطوير نفسها واقتناص كل الفرص المتاحة للنمو إبان هذه الحقبة الاستعمارية أو الحقبة التي تلتها «جاءت هذه المزاعم في سياق الواقع التنافسي والإتهامات والإتهامات المضادة زمن الحرب الأهلية ثم تواصل الأمر من بعد ذلك واستطال»، وهذه الإتهامات تدل ضمنياً على أن بعض المنطلقات عند البعض وإن صدقت جزئياً فهي تدل على محاولة البعض الضرب على وتر الإتجاه العرقي ومحاولة إرجاع بعض عوامل النمو «إن وجدت أصلاً» الى مسببات اخرى غير الكسب الذاتي أو الظروف الموضوعية. أما فيما يختص بهذه المسألة تحديداً «مسألة محاباة الاستعمار لبعض العرقيات» فهذه مسألة ربما تكون صحيحة ضمنياً كما ذكرنا ولكنها أتت نتيجة للظروف الطبيعية والجغرافية وإشباعاً لحاجة الأجنبي الذي لم يحضر إلا للكسب المادي وحيثما وجد المنطقة الملائمة عمل على استغلالها بغض النظر عن السكان المحليين في المستوى الأول وللتطورات السياسية المتلاحقة والصدامات داخل المجتمع المحلي الواحد «إبان الثورة المهدية مثلاً» ومحاولة الاستعمار الاستفادة من هذا الصدام لتقوية وجوده!! ولم تأت بتخطيط مسبق وإصرار على تطبيقها «مثل بروتوكولات حكماء بني صهيون». والدليل على ذلك انه ربما تكون هناك مجموعتان من أبناء عمومة واحدة ومتجاورتان جغرافياً إلا أن الاستعمار في أحيان كثيرة يبطش بإحداها ويقرب الأخرى، في إطار سياسته فرق لتسد، بالاضافة الى أن الاستعمار في كل تاريخه لم يهتم بعرقيات متجانسة ضد عرقيات متجانسة اخرى بل اهتم بكل العرقيات أياً كان موقعها لتحقيق مآربه في السيطرة، وأينما وجدت هذه المآرب انحاز لجهة دون اخرى بغض النظر عن المكون المحلي وانتماءاته العرقية، في مؤشر واضح الى أن القصد من تلك المحاباة الاستفادة في تسيير شؤونه مع وضع مصالحه أولاً بغض النظر عن الفئات التابعة له والقريبة منه أو إنتمائها العرقي أو الجغرافي. كما أن مسألة الاستعمار وأثره في ترقية بعض المجموعات القبلية به كثير من إسقاطات الحاضر على الماضي، حيث من الصعوبة بمكان بعد كل تلك الحقبة من الزمان معرفة التفاصيل الدقيقة التي أدت الى مثل هذا الإنحياز المزعوم في بلاد تفتقر لميزة التدوين والتوثيق وتعتمد على الحكاوى الشفوية في كثير من مصادر تاريخها القريب والبعيد، لذلك فمن المؤكد ان العديد من الحقائق غابت عن أعين الحاضر أو غابت مقاصدها الحقيقية وصار من الصعب محاسبة الماضي بما يُعرف أو يستجد في الحاضر. والأمر المهم الآخر في هذه النقطة أن المحاباة الطفيفة لبعض الجهات كانت مؤقتة وليست دائمة، وأنها في بعض الأحيان أدت الى نتيجة عكسية ومؤلمة كما في حالة تغير الظروف السياسية، فعلى سبيل المثال نحن نعرف أن السلطان علي دينار قد عاد لمملكة اجداده في دارفور عقب إنتهاء معركة كرري مباشرة في العام 1898م.. ثم عندما بسط الإنجليز سلطتهم علي أراضي السودان كافة خلا دارفور «لعجز الإدارة البريطانية المالي» تم التغاضي عن المملكة الدارفورية لمدة ستة عشر عاماً كاملة وكانت العلاقات فيما يبدو ظاهرياً بينهما ساكنة «بين الادارة الاستعمارية البريطانية وسلطنة دارفور»، إلا أنه وبمجرد دخول الانجليز في حرب ضد تركيا في الحرب العالمية الأولى 1914م وخشيتها من إنحياز سلطان دارفور للباب العالي «وقدرتها على الحركة» شنت عليه حرباً عاصفة حتى قضت عليه وعلى مملكته في 1916م. أضف الى ذلك ان الاستعمار لم ينحز لقبائل بعينها فقط بل انحاز ظاهرياً لبعض الطرق الصوفية، وهي مؤسسات أوسع وأكبر مدى وتأثيراً من القبائل والعرقيات في السودان وافريقيا - وهو أمر معروف-، وهذه الطرق الصوفية لا يزال البعض منها يستطيع ان يؤثر في السلطة عبر الإنتخابات الحرة عن طريق دعم الأحزاب السياسية التي لا تجد أنصاراً إلا عبر تأييدها المباشر ومدها بالجماهيرية التي تُحظى بها. والغرض من ذلك تعبوي آني أكثر من كونه أمراً موضوعياً لا يستقيم البحث إلا بذكره، وألا يكون المراقب المحايد قد تعمد إخفاء حقائق لا محيص عنها في الحياة الراهنة. وهنا يجب التأكيد أيضاً على أن الإشارة للطرق الصوفية وغيرها من جهات وتعاونها في بعض المراحل لا يأتي في إطار محاكمة الماضي الذي يحتكم الى ظروفه الخاصة والموضوعية التي تستطيع وحدها ان تقيم تلك الفترة، مع حفظ حقوق المؤرخين في محاولة معرفة الظروف التي صاحبت تلك المرحلة، فلا احد يدري ما الذي يمكن ان ينتج جراء احتلال السودان واستعماره لولا تعامل هذه الطرق مع الأمر الواقع ومحاولتها تجنيب كثير من السودانيين أهوالاً كان من الصعب تفاديها لولا وجود جهات ما حاولت ان تقلل التصادم بين الطرفين في ظل ظروف عسكرية ومالية غير مؤاتية وغير متكافئة، وتخرج فوق ذلك بأكبر مكاسب لتفيد بدورها قطاعات عديدة من أفراد الشعب، وتفيد أيضاً من المنجزات الحضارية والتكنولوجية التي أتي بها المستعمر، ومن ثم استيعابها في أرض الواقع بعد أن قطع المستعمر خطوات كبيرة في درب التطور والنمو بحيث لا يستطيع أحد ان ينكر ذلك أو يتجاهله. بيد أن الثابت تاريخياً ان المستفيد الأول من الاستعمار كان بلا جدال الطوائف الأجنبية التي دخلت معه مثل اليهود والأغاريق الشوام وغيرهم من طوائف. حيث كان دافعها الأساسي فيما يبدو الكسب الاقتصادي المجرد من دون وجود التزامات محلية أو تخوف مما يمكن ان يولده الصدام مع الادارة الأجنبية أو رغبة في تصحيح بعض الأوضاع ورفع بعض الظلم الذي وقع عليها في الحقب التي سبقت هذه المرحلة «مرحلة الاستعمار». وهذا الأمر بالنسبة لمكاسب الجاليات الأجنبية الوافدة يبدو كأوضح ما يكون لو رجعنا للقوانين والإجراءات التي وضعت من أجل ان تحتكر وحدها كل الفرص التجارية المتاحة والاستفادة من حرية الحركة! عندما فتحت أمامها مديريات كاملة في جنوب السودان من أجل تجارتها الخاصة بحيث لا ينافسهم فيها الوطنيون، ولمآرب أخرى «تبشيرية» بالاضافة الى توفير فرص التعليم والترقي الوظيفي غير المحدود لمنتسبيها. وعموماً يمكن القول إن كل مشاريع التنمية في عهد الاستعمار والتي نفذت في خلال نصف قرن من الزمان لم تهتم على الإطلاق بأي طائفة من المواطنين أو تحابيها لذاتها وركزت في المقام الأول على تحقيق مصالحها الاقتصادية سواء كان ذلك بتنفيذ الطرق ومد خطوط السكك الحديدية من أجل إرسال المنتجات الخام الرخيصة الى دولها وتصنيعها وإعادة تصديرها بأرباح أكبر.. أو من خلال إقامة مشاريع زراعية في المناطق التي يجري فيها النيل منساباً دون عوائق طبيعية حيث تتوافر الأرض الصالحة لزراعة القطن والمنتجات الاخرى في مساحات شاسعة «نموذج الجزيرة وسنار». التعليم والإدارة الأجنبية أما بخصوص التعليم الذي وفره الاستعمار فقد كان محدوداً للغاية للدرجة التي لم يتعد فيها ثلاث مدارس ثانوية عليا بعد خمسين عاماً من الاستعمار المباشر وكلية جامعية غير مكتملة وبعض المدارس الوسطى والابتدائية المتناثرة هنا وهناك في دلالة واضحة لا تخفي عن الأنظار ان المستعمر قصد عن عمد تجهيل كل أبناء الشعب السوداني، بل وكل المناطق التي سيطر عيها في دول العالم الثالث بقصد الإبقاء على تحكمه لسنوات طويلة، كما أن هذه المدارس القليلة التي أنشئت أيضاً كانت بهدف إبقاء سيطرته لخلق كوادر دنيا في الإدارة المدنية حتى يزيد من إطلاعه على دقائق المجتمع ويبسط من نفوذه. ولو تأملنا المواقع الجغرافية التي وجدت فيها هذه المدارس نجد أنها وبلا استثناء وقعت في وسط السودان سواء كانت في الخرطوم أو الجزيرة أو كردفان حارماً بذلك جهات السودان الاربع من سهولة الحصول على التعليم المناسب بسبب قلته وندرته وبُعده، اضف الى ذلك ان هذه المناطق اختيرت فقط لسهولة الوصول اليها ومن ثم الإشراف المباشر عليها وزيادة السيطرة والتحكم على إتجاهات مرشديها وتلاميذها. والأمر كله يبقى صفحة محزنة في تاريخ السودان والمنطقة الافريقية بأثرها لضياع عقود في زمن الاستعمار دون أن يتاح لهذه الشعوب فرص التعليم الواسع والمفيد، كما كان التعمد صريحاً ومشيناً في إبقائها على تخلفها وجهلها السابق حتي ىسهل امتصاص خيراتها لأطول فترة ممكنة. لذلك عندما يأتي أفراد في زماننا الحاضر ويتحدثون «وهم نادرون» عن ان الاستعمار قد قام بتعليم بعض الجماعات وتجاهل البعض الآخر! وكان ذلك سبباً رئىسياً لهيمنتهم وزعامتهم الحاضرة! وأن مشاركة الآخرين صورية!! فإن مثل هذا الزعم يكون جارحاً ومجانباً للصواب ومشككاً في وقائع التاريخ التي أثبتت وبرهنت على أن الاستعمار إنما قصد عن عمد تجهيل أفراد الشعب كافة، وأنه كان بمقدوره ان يصل بالتعليم الى مستويات عليا وواسعة لو أراد ذلك لأنه أتيحت له الفرصة والاستقرار في كثير من مناطق السودان ودول العالم الثالث بعد أن قهرهم بقوة المدفع والبندقية وسيطر عليهم في بعض الجهات لأكثر من قرن من الزمان، وبالرغم من ذلك كانت حصيلة التعليم الواسع صفراً كبيراً، ولعل أوضح مثال على ذلك ان الدول عاثرة الحظ التي استعمرتها البرتقال مثل موزمبيق وأنجولا التي امتدت حقبة استعمارياً لأكثر من خمسة قرون إلا أنه وبالرغم من ذلك عندما خرج من بين ظهرانيهم لم يكن هناك طبيب واحد من أصول محلية يستطيع أن يداوي المرضى! «أنظر كتاب والتر رودني». مكائد الأجنبي ومن جهة اخرى وبعد رحيل المستعمر وتسنم السلطة من قبل الوطنيين ما انفكت الأزمات تتوالى والحروب الأهلية تحصد الأرواح، والاقتصاد يتدنى والهجرة من الريف الى المدن ومن المدن الى خارج البلاد تتوالى، والدولة في افريقيا عموماً تدخل في أزمات كبيرة وماحقة بفعل الفتن المزروعة وقلة الخبرة، وبالرغم من كل تلك الأزمات والمعضلات نجد ان بعض الكتابات تشير ضمنياً الى أن بعض الجماعات العرقية قد احتكرت السلطة واستفادت منها في تطوير نفسها، حارمة الاخرين من فرص النمو والتطور!. بيدأن الحقيقة التي لا تُخفى على أحد ان الطريق الى تولي زمام السلطة الوطنية بعد رحيل الاستعمار وتسيير الدولة لم يكن سهلاً، وذلك لسبب بسيط هو أن الدولة الاستعمارية الكبرى عندما أتت الى افريقيا على وجه العموم بعد مؤتمر برلين في العام 1884م كانت تحمل خبرات ثرة في إدارة الدول المستعمرة! حيث سبق لها أن أدارت دولاً وقارات تفوق حجمها ربما مئات المرات مثل الأمريكتين «الشمالية والجنوبية» منذ العام 1600م، وجنوب شرق آسيا والهند واستراليا وغيرها، حيث استمرت تجاربها مع هذه الشعوب في بعض الأحيان لأكثر من اربعة قرون كاملة وهي بالتأكيد
حقبة زاخرة بالتجارب في كيفية إدارة الشعوب المستعمرة وإخضاعها. ومن ثم تمت الاستفادة من هذه التجارب الاستعمارية في كيفية تطوير إدارة الآخرين فيما بعد في افريقيا «وهي آخر القارات استعماراً»، ومن ضمنها توليد قيادات استعمارية فائقة الدهاء والمكر «مكمايكل- لورنس العرب- كرومر- وينجت ودنلوب»، لذلك عندما أتت الى افريقيا بعد العام 1884م وهو تاريخ حديث نسبياً كانت تحمل معها كل بذور تجاربها مع شعوب المستعمرات السابقة التي سرعان ما انفصلت ونالت استقلالها عند شعورها بقوتهاالذاتية، وأقرب مثال على ذلك إنفصال أو استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا في العام 1779م، لذلك كانت الدولة الاستعمارية وهي تخطو ناحية افريقيا تخطط بألا تكرر أخطاءها في هذه القارة حديثة الاستعمار وأن تحدث مشكلات عميقة الأثر بحيث تعجز عن التخلص منها بسهولة وتصبح بالتالي معتمدة على الدول الكبرى ربما لقرون قادمة، لذلك رأينا التعمد الواضح في تعقيد الحدود بين الدول الافريقية وزرع ألغام مؤقتة مكلفة القارة الافريقية عقوداً من الزمان وربما تستمر لقرون حتى تنجح في حلها، ولعل أبرز مثال على نزاعات الحدود في الأوغادين واليمي والباكاسي وأوزو والصحراء الغربية وحلايب وغيرها وغيرها. ورأينا كذلك التعمد في إحياء القبلية والعرقية بعد أن كادت ان تندثر في كثير من أجزاء افريقيا خصوصاً تلك التي نشأت فيها ممالك إسلامية مثل السلطنة الزرقاء وسلطنة دارفور ووداي وكانم وبرنو وصنغاي ودولة مالي الاسلامية حيث تم تحطيم هذه الدول وإحياء القبلية مرة اخرى وقد رأينا كيف كان التخطيط يجري حثيثاً للبحث عن أبناء زعماء القبائل الغابرين الذين انصهروا داخل دولهم الاسلامية وصار من الصعوبة بمكان الاستدلال عليهم ليمنحوا السلطة والمال والخيلاء القبلي القديم. ورأينا كذلك محاولات تجهيل الشعوب بحرمانها من التعليم والحد منه إلا في نطاق ضيق للغاية بغرض وجود وظائف دنيا يأنف المستعمر من أن يشغرها ويمن بها على السكان المحليين. ورأينا كذلك كيف عمل الاستعمار على فض التواصل الافريقي بقطع طرق التواصل التجاري القديم الرابط بين مختلف حواضر القارة.. ووضع طرق جديدة توصل للدول الاستعمارية البعيدة ولا توصل للدول المجاورة!! لدرجة ان خطوط السكك الحديدية مثلاً اختلفت مقاساتها بين دولة واخرى مجاورة حتى داخل النطاق الاستعماري الواحد كما في حالة السودان ومصر حيث لا تستطيع القاطرات المصرية الاستفادة من السكك الحديد السودانية ولا تستفيد القاطرات السودانية كذلك من السكك الحديد المصرية! «مع العلم ان كل مقاسات السكك الحديد في أوروبا موحدة»، لذلك وفي ظل هذه الظروف كافة وغيرها صار من الصعوبة بمكان على أي عرقية ان تستفيد من السلطة، «هذا إذا صح أصلاً أن جماعة عرقية واحدة قد استفادت من السلطة» ففي الحالة السودانية مثلاً نجد ان الحرب في جنوب السودان سرعان ما اندلعت في «18 أغسطس 1955م» أي قبل ان ينال السودان استقلاله وهذا توقيت غريب لإشعال الحرب لأن دعاوى الهيمنة أو المحاباة أو النكث بالوعود! ومن ثم الوصول الى مرحلة الحرب الأهلية لا تكون إلا بعد منح الوطنيين الفرصة الكاملة في إدارة الدولة لمدة خمس أو عشر سنوات على الأقل ومن ثم إعلان الحرب إن كان لابد منها بعد استنفاذ كافة الطرق السلمية الاخرى تحت هذه الدعاوى.. أما ان تقوم الحرب حتى قبل ان تنال الدولة استقلالها رسمياً بدعوى رفض الكونفيدرالية ومحدودية التعيينات وغيرها في هذا الوقت المبكر فإن هذا لا يعني إلا أن القنبلة التي طالما رعاها الاستعمار قد أتت أكلها حتى قبل أن يرحل. وباشتعال الحرب في الجنوب لأكثر من عقد من الزمان في المرة الاولى حُرم الجنوب والشمال فعلياً من أية فرص للتنمية لأن التنمية لا يمكن ان تنجح في ظل الحرب التي اندلعت حتى قبل أن يسيطر الوطنيون على السلطة. ويمكن القول إنه وبسبب هذه الحرب تراجعت كل فرص السودان في التنمية ربما لنصف قرن من الزمان بالرغم من إمكاناته الكبيرة في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية. كما ان اشتداد الحرب الباردة بين المعسكرين السوفيتي والأمريكي جعل دول العالم الثالث ميداناً لها حارماً افريقيا والسودان على وجه الخصوص من الاستقرار والتنمية وشاغلاً كوادرها المتعلمة بنتائجها ومستجداتها.. وجاعلاً منهم في أحيان كثيرة وقوداً لها على قلة عددهم وندرتهم في ذلك الزمان! حيث تحزب البعض للمعسكر الشيوعي وتحزب البعض للمعسكر الرأسمالي ودقوا بينهم عطر منشم وأخذوا في طرد وإبعاد بعضهم البعض من الإدارات المختلفة في وقت كان السودان يحتاج فيه لأي متعلم مهما كان تخصصه ومراحل تعليمه التي قضاها للتنمية. ثم ثالثة الأثافي تدني اسعار المنتجات الزراعية لتطبيق الحزم التقنية وأساليب الزراعة الحديثة في كثير من دول العالم الاخرى حارماً السودان وكثيراً من الدول أمثاله من دخل عزيز ونادر طالما كان يقوم ببعض التغطية في بعض الجوانب الحياتية والإدارية، بالاضافة الى تراكم الديون وتزايد فوائدها عاماً بعد آخر، بالاضافة الى الجفاف والتصحر الذي ضرب كل افريقيا في العام 1982م وتلاشي الثروة الحيوانية وتفاقم الحرب الأهلية في جنوب السودان مرة اخرى. لذلك وفي ظل كل هذه الظروف من الصعب ان تستفيد أي عرقية من الاقتصاد السوداني الطارد أصلاً أو من مزايا الدولة الغارقة في الديون والمشكلات لذلك نجد أن جميع السودانيين المؤهلين للهجرة منذ أواسط السبعينيات وحتى الان سرعان ما غادروا البلاد في مؤشر واضح على جدب وعوز الوضع الداخلي وصعوبة الحصول على لقمة العيش دعك من التفكير في قيام تكتلات اقتصادية عرقية ممتدة! حتى افتقرت وذاقت المسغبة قرى كثيرة في شمال ووسط السودان وشمال كردفان وكل البلاد بوجه العموم. اضف الي ذلك ان تصوير حاملي لواء الفتنة وزعمهم في بعض الكتابات المنشورة ان البعض وصل للسلطة واستفاد من الثروة وخصصها لنفسه وأهله دون الآخرين!! فيه تجنٍّ كبير وظلم لأنه صورهم وكأنهم لا يملكون أية مرجعية دينية أو خُلقية تمنعهم من التصرف في المال العام! وهذا أمر مجانب للصواب! ولا يصدر عن نفس سوية. أو أن جهاز ا لدولة الرقابي الذي ورث من الادارة الاستعمارية كان لا يعمل بشكل فاعل منذ بدايته وحتى تدهوره الأخير ولا يُحاسب المخطئين.. وهذا أمر مبالغ فيه، أو أن الشعور بالمسؤولية قد انعدم عند جماعات عرقية كاملة بلا استثناء وصارت لا ترمي إلا إلى تحقيق مصالحها دون الآخرين! وهذه إتهامات بلا شك مؤلمة ويصعب تجاوزها أو التغاضي عنها، كما ان مثل هذا الزعم لا يمكن حمله محمل الجد لأنه يجعل من كل الناس سواسية في رغبة نهب ثروة الآخرين، وأنه لا يوجد من ينهي عن فعل ذلك أو يتصدى له، «لا يوجد بينهم رجل رشيد»! كما أن الإيمان بمثل هذه المزاعم يعني ان جميع الذين في السلطة بمختلف إتجاهاتهم وحقبهم بما في ذلك المنحدرين من أصول مختلفة متواطئين مع هذه العرقية في الاستيلاء على ثروة الناس وهذا مخالف لطبيعة الأشياء وبه تجنٍّ كبير. خاتمة: عموماً وبالرغم من كل تلك المثالب من حروب أهلية وتدن في الاقتصاد وهجرة جماعية وكوارث طبيعية وعدم استقرار سياسي ومنافسة دولية وإقليمية حادة واتهامات واتهامات مضادة إلا أن هناك بعض الإشراقات داخل كل عرقيات السودان ولعل أبرزها انتشار التعليم بعد الاستقلال بجهد كل أبناء الجماعات العرقية المتعددة بلا استثناء وعلى وجه الخصوص بيد أبناء الوسط الذين أنشئت المدارس الأولى في مناطقهم حيث انصب اهتمام الدولة بعدا لاستقلال على نشر التعليم في مخالفة واضحة للسياسات الاستعمارية التي حاولت خفض المدارس الى الحد الأدنى، وشهد ذلك التوسع «عصر بواكير الاستقلال» اندفاعاً كبيراً نحو التعليم وتوسيعه ليشمل مختلف أنحاء السودان في كل قراه وأقاليمه البعيدة وصحاريه وغاباته ووديانه وانهاره علي يد ممثلين من مختلف قبائل واعراق السودان لدرجة ان المدارس التي خرجت ولازالت تخرج اجيالا من السودانيين كان من الصعب عليهم ان ينالوا اي قسط من التعليم في حالة استمراره ( التعليم) علي ندرته وصفويته السابقة. وان دل ذلك علي شئ فانما يدل علي نفي وجود اي مؤامرة لتجهيل اي منطقة في السودان وابقائها في آسار التخلف. ولعل الجميع يذكر ان المعلمين الاوائل الذي طالما بثوا رحيق علومهم في قرى السودان البعيدة وصحاريه النائية اما كانوا من مختلف أقاليم السودان واتجاهاته ولم يستنكف أي معلم من أن يذهب الي أي مكان ليعلم الطلاب بحيث هبوا في ملحمة نادرة قل أن تتكرر وجعلوا من جميع العرقيات الوطنية سواسية في مجال نيل فرص التعليم على الأقل، ووضعوا الطلاب في مقام الأبناء.. حتى أن الروايات والقصص الحقيقية لا زالت متداولة عن أولئك النفر من المعلمين الأوائل الذي أفنوا زهرة شبابهم في إندفاع كبير نحو بسط التعليم التعليم للجميع في تجرد وسمو ونكران ذات يشبه أفعال الرسل والأنبياء. إلا أن مثل هذه التضحيات والملاحم والتضامن والشعور بالمسؤولية أخذت تتلاشى قليلاً قليلاً ليحل مكانها إتهامات «وهي نادرة على وجه العموم» حول جماعات عرقية احتكرت لنفسها السلطة والمال والعلم متجاهلة الآخرين وغامطة لحقوقهم، وحتى مرحلة الحرب والإصرار على ذلك، فلو كان الأمر كذلك لتم تكريس السياسي الاستعمارية في عدم إشاعة التعليم وحصره في منطقة واحدة ومن ثم الاستمتاع بالسلطة والثروة دون رقيب أو حسيب من أقاليم اخرى لأنها سوف تكون غاصة في دياجير الجهل والخرافة.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.