إذا تجاوزنا - كما قلنا- البنية الظاهرية أى السطحية لهذه الرواية، نجد ان عبد القادر قد أنجز نصاً سردياً بالغ التعقيد في بنيته العميقة، وتثير الرواية مسألتين هامتين؟ اشكالية النص ثم مصداقية الرواية كمدخل ومعيار ومقياس للتحكم في هذا الجنس الأدبي منفلت العيار. الواقع هنا ما تصوره الكاميرا الشفافة كما يقول بارت وليس ما تصنعه الرواية الواقعية بحيث يتجرء النص من الاجتماعي والتاريخي ويتحول إلى مجرد بنيات لغوية وتتحول القراءة إلى لذة خالصة، والحقيقة أن الواقع يتغير بتغير اللغة، وقد قضت الحداثة على مفهوم المحاكاة وأصبحت الرواية هي الأنا الآخر على حد تعبير بروست، كما ان هناك غير واقع، الواقع الرسمي حيث الأبواق السياسية والاعلامية ومؤسسات العقوبة «السوط والصوت» كما يشير الكاتب أي التعذيب والصراخ ولكن هذا الواقع الرسمي يتحول إلى رمز من خلال اللغة نفسها، وقد المحنا من قبل إلى أن التناص لا يغض من تميز الكاتب المجيد. إذا تمكن من تجاوز المعنى إلى معنى المعنى، وقد يقول قائل ان الجزء الخاص بالخطابات في نهاية الكتاب يمثل حلاً للعقدة القصصية فقط بعد تخطي الذروة «يشيرون إلى تمرس المؤلف في القصة القصيرة» ولكني أرى ان ذلك لا يكفي، إذ بالأمكان النظر إلى الخطابات كنصوص منفصلة عن ومتداخلة مع النص السردي، «INTERTEXTS» لذلك قالت جوليا كريستينا «كل نص هو لوحة فسفسائية من الاقتباسات، وكل نص هو تسرب وتحويل لنصوص أخرى». وتأتي أهمية هذه المغايرة السردية من كون مصداقية النص مصداقية سيمانتية وليست انطولوجية تتعلق بالحياة والوجود، وعلينا كنقاد ان نحل اشكالية شفرات المصداقية التي كثفها عبد القادر في نهاية النص وبجهود مضنية تشوبها أحياناً المماطلة بسبب التجريب المبالغ فيه «لماذا يشمئز الناس كلما جاءت سيرة الحسن ود أب رحط، «ويبدون كارهين له، أليس هذا هو سؤالك؟ هناك أشياء كانت تحدث في غيابك ولم يشاركك بها أحد كما يبدو، فأحمد الله على ذلك» وكما ترى فإن هذه الخلاصات لا تتجلى إلا في ذهن السارد العليم بكل شاردة وواردة، وعلينا ان نقرر هنا ان التناص في السرديات ضربة لازن ولا ينجو منه كاتب مهما كان مميزاً، وإذا كنا قد ألمحنا إلى تناص سردية عبد القادر مع «السد» للمسعودي وبعض نصوص بورخيس، فإن نجيب محفوظ وهو من تتماهى روايته «يوم قتل الزعيم» مع رواية فوكنر «يوم أرقد لاموت». وليس من الصعوبة بمكان تصنيف الرواية وقدرتها على التكيف «الرواية مؤسسة غضة الإهاب ناهيك عن الرواية السودانية» بدءاً من الرواية الاجتماعية البانورامية «ديكنز»، الرواية الواقعية «بلزاك» الرواية الرومانسية «مغوير، دستوفسكي» الرواية الجديدة «جريبه» حتى الواقعية السحرية «ماركيز»، كما يمكن تسليط معيار المصداقية على الرواية السودانية خاصة الحداثوية منها «عيسى الحلو، ومنصور الصويم، ومحمد خلف الله سليمان، وبركة ساكن.. إلخ». وبذلك نحل مشكلة تخبط المناهج التي لا تتكامل إلا في بوتقة المصداقية، حيث تتأكد اللغة /الرواية. وتحقق اللغة هذه المصداقية من خلال حواريتها كما يقول الناقد الفذ باختين، فكيف تعامل عبد القادر مع أدواته الحوارية؟ أدلى كل بدلوه حتى كادت تختلط على الدلاء.. - هي بالتأكيد من سلبيات المدرسة الداخلية.. - بل هو من إفساد المرأتين الحرة والام.. - المراهقة مرحلة خطرة. - يقولون نشأ مائعاً مبطراً لا يشارك الأطفال اللعب. - تربية حبوبات.. - هو أكبر منا، فلم نشهد نشأته ولا مراهقته.. وجدناه هكذا.. - لكنه اتجه نحو جيلنا.. - كنت بريئاً خجولاً عندما ناداني بإشارة من يده، ارتبت فيها، لكني ذهبت إليه.. قادني إلى حجرة خالية.. ثم أخذ صوته يضطرب وقد مد يده يعبث، خفت فهربت وما بحت لأحد إلا بعد ما تكررت أفعاله مع غيري. - أما أنا فقد شتمته صارخاً حتى تجمع الناس طلب مني ان أدلك له ظهره ففعلت بحسن نية.. فكثير من الذين يعملون في الحواشات يطلبون ذلك، ويطلبون ان نمسد لهم سيتانهم ونشد أصابع أقدامهم ولكنه خلع ما عليه من وطلب مني أن أرقد فوقه.. إلخ». هذه اللغة التي تومئ وتراوغ وتتجنب المباشرة هي المعادل الموضوعي الذي وفق إليه عبد القادر في حوارياته، والتي هي وسيط يفتي عن ارباكات الواقع المادي. ختاماً لا بد ان نشير إلى استراتيجية العنوان «ثم ماذا بعد» الذي يشئ بانفتاح النص على عوالم متجددة، كما لا بد لنا ان نحاول معالجة الرواية السودانية على ضوء النظريات المعرفية والنقدية الحداثية وما بعد الحداثية ولدينا الشباب المؤهلون لتلك المهمة العسيرة.