ان الاصل الذي يرجع اليه المؤمن وينزع عنه في اموره كلها- أصل العبودية فهو لا يقوم على شئ حتى يعلم حكم الله فيه، وهذا خلاف حال غير المؤمنين الذين يبحثون عن المنفعة والمصلحة وفق الرؤية الذاتية والهوى ويجعلون ذلك الاصل الذي ينطلقون منه، ولذة الدنيا عندهم مقدمة على غيرها، ان الاختلاف بين هاتين الرؤيتين ينبغي ان يظل واضحاً وبيناً ذلك ان بوضوحه وبيانه تتضح الاهداف والغايات والمتطلبات والوسائل التي يتخذها كل فريق ومن أهم القضايا المثارة في هذا العصر قضايا الحكم والسياسة وقد تعقدت هذه القضايا بقدر تعقد حياة الناس، وما يكتنفها من حقوق وواجبات والتزامات موصولة بالعمل السياسي، ذلك ان السياسة قد أحاطت بالحياة العامة والخاصة في جميع جوانبها احاطة السوار بالمعصم. --------------------------------------------------------------------------- الشورى والحكم: لتناول الشورى في أمر الحكم جانبين: الأول وهو متعلق بكيفية إختيار الإمام الحاكم (رئيس الجمهورية) وكيفية البيعة له والجانب الثاني يتناول الشورى في الأحكام فيما لا نص فيه فيما يتعلق بأمر السياسة. أ) الشورى في إختيار الحاكم (الإمام): وهي تقوم على ان الحق في تنصيب الحاكم حق الأمة فهي التي تختار حاكمها كمالاً لأمر الدين وتماماً لإصلاح الدنيا وهذا يدل على وجوب الاختيار فإن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب واختيار الحاكم لا يخرج في غالب الأمر فيما ذهب إليه التراث الإسلامي من واحدة من الصور الآتية: الصورة الأولى: أن تقوم الأمة على صعيد واحد فتختار إمامها وتبايعه على ذلك وكالة عنها إقامة لأمر الدين وسياسة الدنيا. الصورة الثانية: ان يتصدى للأمر مجموعة من أهل القوة والشوكة والسند الشعبي والاجتماعي فيتم الأختيار للإمام عبر ذلك ثم تتراضى الأمة من بعد ذلك عن هذا الأختيار. والصورة الثالثة: تولي الأمر من قبل أهل الحل والعقد داخل المجتمع والعهد بالأمر إلى الخلفية أو الإمام ثم طرح الأمر على عامة المسلمين لتحقيق الرضا والمبايعة العامة. فهذه الصور من اختيار الإمام تتدرج بين صورة مثالثة يصعب تحقيقها في الواقع وهي أن تتم الإمامة بناد على اختيار كافة الأمة بعد وقوفها على صعيد واحد وهو خيار لا يمكن تحقيقه نسبة لضخامة اعداد افراد الأمة وتشعب البيئات والمناطق. والصورة الثانية: وهي الاقرب حدوثاً في الواقع، أما الصورة الثالثة فإنها تطرح سؤالاً حول من هم أهل الحل والعقد وكيفية الوصول إليهم وعليه نتناول كيفية الشورى والاختيار من خلال هاتين الصورتين. صورة اختيار الحاكم عبر الأمة مباشرة ما أمكن أو عبر ممثلين للامة. والصورة الاقرب لمقاصد الشرع والتي يمكن تحقيقها الآن وهي متعارف عليها في النظم السياسية المعاصرة: هي ان يتم الاختيار عن طريق مجموع الأمة ما أمكن وهو ما يتم عليه انتخاب رئيس الجمهورية وذلك بأن تطرح أسماء المتقدمين للرئاسة على عامة الناس ثم يختار الناس عبر صناديق اقتراع من يرونه مناسباً بالضوابط المحددة، وهو ما يعرف بالنظام الجمهوري الرئاسي تقريباً، وبذلك تصبح البيعة الشورية بين الرئيس مباشرة أو الإمام وبين عامة الأمة وتصبح الأمة متعاقدة مع رئيس حاكم واحد وليس مع حزب أو مجموعة من الأفراد وما يلي الكيانات من هذا إن وجدت تنشيط عملية الدفع السياسي والاجتماعي لتأهيل وابراز قدرات وامكانيات الحاكم وإظهار القوة والشوكة التي تؤيده وتدفع به إلى تولي زمام أمر الأمة، لذلك يسمى إماماً تشبيهاً بصورة الاجتماع على إمام واحد في الصلاة أو الاصطفاف خلفه طاعة للّه سبحانه وتعالى وتوحيداً على منهجه وإمامته خليفة او رئيساً. والمثال المحتذى نجده في سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد تولى إمامة الأمة بتزكية اللّه سبحانه وتعالى وحفظه يقول الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) سورة التوبة آية «128»، وإمامة الرسول (صلى الله عليه وسلم) تقوم على عقد الايمان الديني على شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله فكان اختياره اصطفاء واجتباء من الله سبحانه وتعالى يقول عز وجل (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) سورة النساء آية «65». ثم تولى الأمر بعد ذلك أبوبكر الصديق بعد تشاور وتحاور وإتتلاف ثم مبايعة كما وقع ذلك في سقيفة بني ساعدة، ومن أهم الإشارات إلى خلافته إمامته للأمة في حالة مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم). وكما هو معلوم فان الشيعة يرون ان تحديد منصب الامام وصية من الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبوحي من الله سبحانه وتعالى وليس للأمة الحق في تعيين الإمام وهذا انحراف كبير ووهم. ثم تم اختيار سيدنا عمر رضى الله عنه واعقب ذلك عثمان ثم تولى الأمر علي رضوان الله عليهم جميعاً. وقد راعى اختيار الخلفاء تحقيق مبدأ الشورى بكيفياته كما هو مذكور في كتب التاريخ والسياسة الشرعية، لكن ما نلحظه ان سابقة الجهاد والاجتهاد والقرب من الرسول (صلى الله عليه وسلم) وإلتزام اخلاق التقوى والورع والايمان كانت هي الصفات الأساسية المؤهلة لأخذ البيعة للإمامة ولم يكن أمر الاختيار مشكلة لأول أمره وإنما ظهر الخلاف في أمر السياسة الشرعية - فلم يوجد أحد من المسلمين تمرد على سلطان أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي لأول الأمر بدعوى عدم شرعية البيعة - ومن امتنع مؤقتاً مجتهداً آب وبايع فصارت البيعة عامة إلاّ من شذ. غير ان الاختلافات ثارت بعد ذلك لأسباب ذكرها أهل التحقيق من المؤرخين وهي ذات اتصال بأمر السياسة الشرعية في بعض أوجهها، وهذا فيما يتعلق بأمر الشورى في اختيار الحاكم. 8/ مقصد الشورى: مما يتضح من خلال الوقوف على النصوص القرآنية والسنة النبوية فيما يتعلق بالشورى فيمكننا جمع ذلك في أمرين: اولاً: قصدت الشورى إلى معرفة الصواب باعمال العقول اجتهاداً وعبادة. ثانياً: قصدت الشورى إلى تحقيق الرضا بمشاورة أفراد الأمة لا سيما وأنه في غالب الأمر يترتب على ذلك إلتزام. ولو رد الأمر إلى هاتين القضيتين لزال الكثير من اللبس الذي دار حول الشورى ومدى إلزاميتها. 9/ الشورى باعتبارها وسيلة لمعرفة الصواب: الذين ذهبوا إلى أن الشورى معلمة قالوا إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مسدد بالوحي وغير محتاج إلى مشورة الناس - وهذا الحديث صحيح في عمومه غير ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) مشرع - والتشريع في أمر الشورى يتناول إعمال العقل وبذل الجهد البشري في الوصول إلى الحق. فإذا كان الوحي هو الوسيلة الأولى للمعرفة فإن مشاورة العقول أيضاً وسيلة من وسائل الوصول إلى الحق، والوحي إنما يأتي مدداً للعقل وتسديداً له وتوجيهاً، والعقل قاصر في أمور مسدد في أمور والرسول (صلى الله عليه وسلم) قدوة في الأمر كله. ومن المواقف التي استشار فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) صحابته لبيان الحق والصواب في اتخاذ القرار ما يلي: استشارة السعدين في اعطاء ثلث ثمار المدينة لما اجتمعت الاحزاب تريد محاصرة المدينة ونقض يهود بني قريظة العهد مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومزقوا صحيفة العهد - حاول الرسول (صلى الله عليه وسلم) ان يجد شرخاً في جبهة الاحزاب فاستدعى عيينة بن حصن والحارث بن عوف زعيمي قطفان وعرض عليهما ان يعطيهما ثلث ثمار المدينة على ان يرجعوا بمن معهم عنه وعن اصحابه فأرسل الرسول (صلى الله عليه وسلم) الى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وهما زعيما الاوس والخزرج ليستشيرهما في الأمر فقالا يا رسول الله أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً امرك الله به لا بد من العمل به أم شيئاً تصنعه لنا؟ فقال بل شيء أصنعه لكم، لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد ان أكسر عنكم من شوكتهم، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الاوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون ان يأكلوا منها ثمرة واحدة إلاّ قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالاسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): أنت وذاك.. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال ليجهزوا علينا. من هذا يتضح ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يضعف شوكة الاعداء وقدم ما رأى للشورى، ونزل بعد الشورى عند رأي سعد بن معاذ ولم يمض اقتراحه في أمر ثمار المدينة.. والأمر هنا من الوضوح بمكان وقد حاول صاحب معالم المدرستين (كتاب للشيعة) ان يبحث عن المبرر وهو من الذاهبين إلى عدم إلزامية الشورى بقوله إن هذه الاستشارة أراد منها الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلقاء الخلاف بين القبائل المحاربة.. ولعله لم يوفق في هذا التعليل وإن كان الأمر حيلة لقال الرسول للسعدين ذلك كما أخبر نعيم بن مسعود بذلك كما هو معلوم. الاستشارة في أسرى بدر: لم يكن الحكم الشرعي قد نزل في أمر أسرى بدر فأشار الرسول (صلى الله عليه وسلم) لاصحابه في ذلك فظهرت الآراء الآتية: 1/ ان تؤخذ الفدية من الأسرى وبه قال معظم أهل بدر وفي مقدمتهم أبوبكر. 2/ قتل الأسرى وهذا رأى عمر بن الخطاب ولم يوافقه أحد من أهل بدر. 3/ حرق الأسرى وبه قال عبد الله بن رواحة. فأخذ الرسول (صلى الله عليه وسلم) برأي الاغلبية في ذلك وأخذ من الأسرى الفداء فنزل بعد ذلك القرآن الكريم - مبيناً للحكم وموافقاً رأى سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يقول تعالى: (ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم . لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) سورة الانفال آية «67 - 68». وقد سبقت الإشارة إلى هذه الحادثة، ومن العلماء من ذهب إلى ان الصواب في حاصل الرأيين كما وقع.