يحق لمركز عبد الكريم ميرغني أن يزهو باطلاقه قمراً أدبياً مكتملاً في حلكة فضاءاتنا الثقافية وانبهامها الناجم عن غياب التوثيق الذي كاد يصبح من خصائص عقلنا الجمعي والذي يتدحرج ويعلو في متاهة من الابتداءات في عبثية أشبه بملهاة «السلم والثعبان». ويتمثل هذا الانجاز الباهر في السفر الكبير: بحوث في الرواية السودانية والذي يضم اوراق المؤتمرات العلمية المصاحبة لجائزة المغفور له الطيب صالح للأعوام «3002-8002م». وقد أسهم في تقديم هذه الأوراق والتي تتناول راهن الرواية السودانية واسئلتها الرئىسية معظم نقاد وأدباء المشهد الثقافي مما يجعل هذا الجهد الكبير كشافاً حقيقياً يضئ كافة زوايا عقلنا النقدي من رصانته المعهودة إلى زلزاليته المتوقعة وفكاهته بشقيها الأبيض والأسود. وقد أتاح لي هذا الإصدار مساحة فسيحة للنظر والتأمل في نتاجات وعينا السردي على وجه الخصوص والذي كان تتقطر مفاهيمية ببطء حدائق الصخور في غياباتها البحرية- عبر المؤانسة والحوارات الصحفية والافادات المقتضبة هذا بالاضافة إلى البحوث الأكاديمية القليلة في هذا الشأن والتي لا تعبر بطبيعة الحال عن عقل الباحث بقدر ما تكتب التزاماً بالمناهج التي يحرسها بصرامة ونظارات مزدوجة اكاديميون غلاظ لا تسير مراكب البحث إلا برياحهم. والتي غالباً تأتي بما لا يشتهيه الدارس والذي يكون قلبه معلقاً بثريا الإجازة «الدكتوراة أو غيرها» بدرجة أكبر من البحث وتطوره بل ومصيره في الغالب الأعم. هذا لا يحتاج إلى برهان فهو ماثل في الكم الكبير من الاجازات العليا في كليات الآداب ولا يعلم أحد أين ذهب حاملوها المدلون بعبقري شبابهم. إلى هنا يبدو ان النتاج الحقيقي الأصيل والمعبر عن منتجه يأتي وراء «أو بعد» هذه الاعتبارات. وقد حمل هذا السفر الذي نحن بصدده جهوداً مقدرة من الاكاديميين رأينا كيفية سباحتهم الحرة في مجال النقد وقوة دفعهم في هذا المجال. ومن التوافق المدهش صدور هذا السفر مع رغبتي في محاولة اجلاء الغموض عن الموقف الأدبي في السودان بالحوار مع عناصره.. الكاتبة والمكتوبة والمكتوب لها. والذي يصفه الاستاذ عيسى الحلو بالانتقالية وفقدان المعايير. ولقد وضع هذا الأصدار تحت يدي صورة مكتملة للنقد السردي في السودان بلا عناء، أو جوس في الأوراق السيئة التخزين، ولا أقول الحفظ- فتلك ثقافة أخرى- مما يشكل إتاحة فسيحة أيضاً لهذا الباب «ميتا نقد» بأن تعبر من خلال «محاوراته» أو «مآدبه» أو «جداله» تلك الأفكار الخلاقة. وعندما أقول خلاقة لا أعنى بذلك المدح الجماعي الذي يدعو للسأم، والذي شبعنا منه «قواً»، كما تقول عاميتنا السودانية و«القو» هو الهواء حسب السياق في مصكوكة المثل العامي- أقول حسب السياق وليس أمامي وقت للمراجعة مع قاموس اللهجة العامية. نعم شعبنا من ذلك. فأنا أقول خلاقة بمعنى أنها منتجة للحوار الذي هو السبيل الوحيد للتطور ولا أقول للحقيقة التي أؤمن بأنها نسبية وأن هنالك حضارات وامبراطوريات وثقافات عظيمة قامت على أكاذيب «للبعض» عظيمة. لذا أنا في غاية السرور لتوافر هذا المرجع النادر بين يدي المهتمين والقراء مما يجعل من التحاور مع مادته النقدية حواراً في الضوء والهواء. يتيح لها التطور السليم والمعافى. وأجدني لست غنياً عن التنويه بأنني لن أتناول بنقد النقد المسائل والموضوعات حسب فهرستها بل حسب كل طاقة موضوع على إثارة وتحفيز الحس النقدي- على تواضعه- لدينا. لذا سأبدأ بورقة صديقي الاستاذ محمد الجيلاني على سبيل المثال وانتقل بعده إلى مقدمة الأخ د. محمد أحمد الصاوي. فالتناول هنا ترتبه درجة التحفيز لدى الكاتب والاسئلة التي يظن أنها ترتبط بكياننا أو «روحيتنا الثقافية». ونختم هذه المقدمة للحوار بالإشارة إلى أن هذا الكتاب قد قام بالتقديم له الناقد د. محمد أحمد الصاوي وأنجز مهام تحريره الاستاذ الناقد أحمد عبد المكرم وهو من اصدارات يناير 0102م، ويحوي حوالي «007» صفحة من القطع الكبير.