بدءا من الخميس المنصرم، إنخرط الجنرال إسكوت غرايشون، مبعوث الادارة الأمريكية لدى السودان، في مباحثات مكثفة، مع كبار المسؤولين الحكوميين وقادة الأحزاب السياسية في البلاد. الطابع الرسمي لزيارة المبعوث، يظهرها على أنها تفقدية، الهدف منها الإطلاع على سير تنفيذ إتفاقية السلام الشامل، والتدارس حول إمكانية قيام الانتخابات فى موعدها، واستفتاء الجنوبيين حول تقرير مصيرهم، بحسب الجدولة الزمنية الموضوعة. فيما تقول الوقائع بان حقيبة غرايشون خلت من كل الملفات السودانية، عدا ملف الإنتخابات، وهي دعوى تسندها تحركات الجنرال المكوكية للإلتقاء بكل أطراف الساحة، بغية إنقاذ الإنتخابات من المصائر التى يعتبرها البعض مجهولة، خاصة وأن الزيارة أتت متزامنة مع إعلان الحركة الشعبية (الشريك في إتفاقية السلام) سحب مرشحها لإنتخابات الرئاسة ياسر سعيد عرمان، ورغم ان الاعلان عن الزيارة سبق موقف الحركة. ويعتبر موقف إدارة أوباما من قيام الانتخابات في البلاد، من أكثر المواقف ثباتاً، فإدارة أوباما عمدت على إرسال رسالة مفادها أنها راغبة وبشدة في قيام الانتخابات في موعدها المحدد له شهر أبريل، وصبت تصريحات غرايشون طوال الفترة الأخيرة في دعم ذلك المنحى القاضي بضرورة توجه السودانيين نحو صناديق الاقتراع في الموعد المحدد، بالرغم من إقرار واشنطن ولأكثر من مرة بوجود عوائق في مسار الإنتخابات، وتتعلق بالجوانب الفنية والإجرائية. وفي وقت فشل فيه غرايشون في زيارة اللحظة الأخيرة، تلافي قرار قوى إعلان جوبا، بمقاطعة الإنتخابات كلية، أو حتى بمجرد حمل قوى الإجماع للإكتفاء بمقاطعة إنتخابات كرسي الرئاسة، تراجع حزب الأمة القومي أمس الأول عن قراره الأول، ووضع ثمان إشتراطات، كيما يشارك في الماراثون الإنتخابي، وحدد يوم بعد غد الثلاثاء كمهلة أخيرة للرضوخ عند طلباته، وإلا فإنه سينأى بجنبه عن دخولها. ولا يمكن بحال قراءة موقف حزب الأمة الجديد، دون ربطه بمساعي الجنرال غرايشون الحثيثة في كسر حدة قرارات الحزب، وتدارك موقف الأول بالمقاطعة. بيد أنه -أي حزب الأمة القومي- رفض وبشدة أن يكون قراره إمهال المؤتمر الوطني حتى الثلاثاء، إنصياعاً لقرارات واشنطن، وأعلن على لسان القيادية البارزة بصفوفه مريم الصادق المهدي، أن لقاء الإمام الصادق والمبعوث أكتفى بمجرد إطلاع المبعوث على مواقف الحزب الأخيرة، وهي مواقف شددت مريم على أنها خلاصة مشاورات جادة بين قياداته وينشط الطيار السابق في سلاح الجو الأمريكي، والمقيم بين ظهرانينا هذه الأيام، لخلق نوع من التجاذب بين أقطاب الساحة السياسية شديدة التنافر، بلعبه دور الوسيط، الساعى لتقريب وجهات النظر المتباعدة بين الفرقاء، بالإستناد على حالة الحرص المتعاظمة لدى إدارة الرئيس أوباما على قيام الإنتخابات في موعدها، ويتبدى ذلك الحرص في حديث نقلته وسائط الإعلام عن المتحدث بإسم الخارجية الأمريكية ب. ج. كروالي وقال فيه: «نحن نعمل بجد لمحاولة مساعدة الأطراف على حل هذه الامور. ومازلنا نأمل أن تجري الإنتخابات في الحادي عشر من ابريل». بيد أن حرص الولاياتالمتحدة على قيام الإنتخابات في الموعد الذي رسمته المفوضية القومية للإنتخابات، يصطدم بالكثير من المخاوف والريب في نفوس السودانيين، مخاوف مبعثها أن إدارة أوباما ظلت تبعث مع دعواتها الرامية لقيام الإنتخابات، بظلال من الشك حول المناخ الذي يحيط بمجمل العملية. المخاوف تمتد من تصريحات القادة الأمريكيين، لتتعداها الى عدد من التقارير التي تطعن في سير عملية الإنتخابات، ولعل أبرز تلك التقارير صدر عن منظمة (هيومن رايتس ووتش)، المنظمة في تقريرها وصفت ممارسات الحكومة بالقمعية، وإتهمتها بأنها مارست عمليات خروقات واسعة النطاق بهدف التأثير على مجرى الإنتخابات وقالت إن الأوضاع في البلاد لا تشير بعد إلى أنها تمهد لإنتخابات حرة ونزيهة وموثوقة. وفي منحى مشابه لمنحى ووتش، دعت مجموعة الأزمات الدولية القريبة من اليمين المسيحي الأمريكى المجتمع الدولي لعدم الاعتراف بنتائج الإنتخابات، وعدم إضفاء أي نوع من الشرعنة على القادة الذين ستفرزهم. ويقرن مراقبون الموقف الأمريكي المتشدد من قيام الإنتخابات في موعدها، في ظل تصريحات قادة إدارة أوباما، والتقارير الدولية السالبة، بجانب حالة التنازع القائمة بين القوى السياسية في البلاد، يقرنون بينه والسيناريوهين الكيني والإيراني، فحالة الفوضى التي عمت البلدين كانت نتاج وقائع شبيهة أفضت لعدم رضا قوى المعارضة عن ما تمخضت عنه الإنتخابات، في وقت كانت تتمسك فيه الأحزاب الحاكمة الفائزة بصحة وسلامة العملية. وقلل د. حمد حاوي، أستاذ العلوم السياسية، من نظريات الرعب الإنتخابي، وفسر حرص الإدارة الأمريكية على قيام الإنتخابات في مواقيتها الزمنية، لجهة التخلص من العبء الزائد الملقى على كاهلها (سياسي، مالي، لوجستي) من جراء رعايتها لإتفاق السلام. وأشار حاوي في حديثه مع «الرأي العام» الى الإهتمام الأمريكي بإنجاز مشروع سلام نيفاشا، والوصول لمرحلة الإستفتاء، وهو أمر يستحيل بلوغه دون المرور بجسر الإنتخابات. وفي ذات السياق، دعا حاوي لعدم الإلتفات للتقارير الدولية، كونها إمتداداً طبيعياً لحملات جماعات الضغط، المناوئة للمؤتمر الوطنى ونفى أن تكون لتلك التقارير إسقاطات سالبة على سير عملية الإنتخابات. ولم يذهب السفير محمد حسن الركابي الخبير في الشأن السياسي والدبلوماسي بعيداً عن حديث حاوي، بالتأكيد ل «الرأي العام» على حرص إدارة أوباما، الحفاظ على إستقرار الإقليم، متذرعة في ذلك بإحساسها بالمسؤولية عن الدول الباحثة عن الحكم الراشد. ومهما يكن من أمر، فإن الجنرال غرايشون يواصل بحثه الحثيث عن أطراف فاعلة تشارك في الإنتخابات، بحث ربما يكلل فى الساعات القادمة بإعلان مزيد من القوى السياسية مشاركتها في السباق الإنتخابي، الذي تصر الإدارة الأمريكية أن تكون صافرة إنطلاقته، الحادي عشر من أبريل. وبينما قد لا يتمكن غرايشون من حمل أحزاب تاريخية على المشاركة فى كافة المستويات، فانه على الأقل قد يقنعها بالمشاركة فى المستويات التى تلى رئاسة الجمهورية والولاة.