قلت للأستاذ علي شمو وزير الإعلام والثقافة لدى الترتيب للقاء العميد عمر البشير، لقد تابعت تطورات إنقلاب 03 يونيو 9891 في لندن ساعة بساعة ويوماً بيوم، وطالعت البيانات والتقارير على حد سواء، ولست راغباً في خبطة صحفية، ولا في حديث مثير وإنما راغب في أن أكون انطباعاً شخصياً ومباشراً عن العميد عمر البشير وأطرح الأسئلة على طريقتي لأحصل على استنتاج بعينه أو لأمسك بالخيوط التي تجعلني ملماً بأسلوبه وتفكيره وملامح شخصيته. إن الشخصية العسكرية المحورية وقبولها غالباً تحدد بقاء الإنقلاب أو ذهابه. وطلب مني الأستاذ شمو إعداد أسئلة مكتوبة وفعلت كسباً للوقت رغم أنني اعتدت على حوار يلمس قضايا مباشرة دون أسئلة مسبقة، وأبلغني الوزير علي شمو بموعد اللقاء في مجلس الوزراء، وأفادني أيضاً أن العميد البشير أمامه برنامج مزدحم باللقاءات والاجتماعات وأن أمامي خمساً وثلاثين دقيقة للحوار معه، ولكن اللقاء الذي بدأ في نحو الساعة الواحدة وعشر دقائق ظهراً استمر الى نحو الساعة الثالثة إلا عشر دقائق أي نحو ساعتين. واستقبلني عمر البشير على الطريقة السودانية طريقة «أولاد البلد» هاشاً وباشاً وودوداً وبالأحضان، وقد سجلت كاميرا التلفزيون هذا اللقاء في حينه وجاء مدخلنا للحديث مدينة شندي في الإقليم الشمالي، فكلانا ينتمي إليها، وهي مدينة لها تاريخ ورصيد لا يستهان به في كل مجال، وأطلق عليها في حقبتي الاربعينيات والخمسينيات «مدينة الجهاد والمظاهرات» لدورها الكبير في الحركة الوطنية ضد الاستعمار. وتذكرنا المدرسة الأهلية الوسطى (الثانوي العام) كأول مدرسة شيدها تجارمدينة شندي وتكفلوا بجميع نفقاتها من كتب وأدوات مدرسية ومرتبات وسكن للمعلمين، وجاء قول العميد عمر: «كان رجال تلك الفترة في قمة الوطنية والتجرد، لقد كان بعض طلابها يدرسون بالمجان أو بمصروفات رمزية، ثلاثة أو ستة جنيهات، تدفع على أقساط كل ثلاثة أشهر وتذكرنا مديرها آنذاك المرحوم الأستاذ عز الدين أبوالقاسم وبسمته الدائمة، ومعلمينا الأفاضل بكري الزين، والأمين محمد نور (أطال الله عمريهما) وحبيب مدثر ومصطفى محمد صالح (رحمهما الله) فلا يكادوا يفرغون من حصصهم في أعقاب ساعات العمل حتى يعودوا مرة أخرى للمدرسة ليكونوا مع طلابهم للمراجعة أو لمشاركتهم النشاطات المختلفة، المكتبة، والرياضة والندوات، وعندما قدمت إليه أسئلة مكتوبة للإطلاع عليها أولاً قبل الإجابة أعادها وقال: أسأل ما تشاء. قلت له أحياناًِ أسجل وقائع وأسماء في مفكرتي، وأظن أنني سجلت اسمه في أغسطس 5891م عندما نقل لي أن ضابطاً شاباً اسمه عمر البشير في لقاء بين رئيس المجلس العسكري الانتقالي المشير عبد الرحمن سوار الذهب والضباط والجنود في جبل أولياء للتنوير حول التطورات الجديدة أي بعد انحياز الجيش لخيار الشعب ثم مناقشته حول الاحتياجات الحيوية للضباط والجنود وأنه -أي البشير- تصدى بالقول «لقد جئنا لمناقشة أوضاع ومشاكل السودان، وليس أوضاعنا ومشاكلنا في الجيش، وكذلك نقل أيضاً اعتراضك على تسليم السلطة للمدنيين باعتبار أن الحاجة ضرورية للاستقرار وبالتالي معالجة القضايا الرئيسية للوطن، وقد أدت المناقشة والمواجهة الى أايقافك لعدة أيام ثم صدر القرار بنقلك الى خارج الخرطوم فهل هذا صحيح؟ وجاء رد العميد عمر هادئاً: هذه الواقعة لم تحدث لأنني كنت مكلفاً بعد الاستيلاء على السلطة والانحياز للإرادة الشعبية (الانتفاضة الشعبية أبريل 5891م) بتأمين الموقف في الخرطوم وقد تحركت الى جبل أولياء لتنوير الضباط والجنود، وعندما قلت إن إنقلاب 03 يونيو 9891 لم يكن على السلطة المدنية وحدها وإنما أيضاً على القيادة العليا للقوات المسلحة التي كانت طبقاً لتنوير سابق القيام به في 7 يوليو 9891م. جاء رده: إطلاقاً لم يكن هنالك أي دور لأية قيادة مدنية، بل كان الدور كله عسكرياً بحتاً، وكانت لنا اتصالات مع الإخوة في الشرطة وأسهموا بدور مميز، ولقد كان ملاحظاً وقتها وجود مكثف لسيارات الشرطة حيث كان يجب الاستعانة بالشرطة.وعندما سألته وماذا عن تنوير القيادة العامة برئاسة الفريق فتحي للقيادات بالإستيلاء على السلطة في 7 يوليو وهل هذا صحيح؟ رد: على الإطلاق ما في كلام زي ده أو بالشكل ده، وآخر تقرير للفريق فتحي قبل 03 يونيو 89م، جاء فيه: إن مذكرة القوات المسلحة تحققت بنسبة «90%» والباقي منها موضوع زمن، وهذه كانت قناعته وقد أبلغها للضباط في القيادة برتبة عميد فما فوق. وبتركيز فإن الحوار تناول الأوضاع الأمنية في مناطق السودان كافة، وبوجه خاص في الجنوب ودارفور، والوضع الاقتصادي ومعالجة الأوضاع المعيشية والحرص على تشكيل مؤتمر من الخبرات الاقتصادية والمالية والتجارية لمعالجة المشكلة الاقتصادية على غرار المؤتمر الوطني وسنفعل ذلك في المشاكل الخلافية الكبيرة وفي القضايا التي تواجه السودان، وإن شاء الله نتعامل بالمستوى نفسه مع مشكلة مستقبل الحكم في السودان، وعن العلاقات السودانية المصرية، قال البشير: «نحن نعتقد بأزلية العلاقات والروابط التاريخية بين السودان ومصر، وأن السودان هو العمق الطبيعي لمصر، كما أن مصر هي العمق الطبيعي للسودان، والمطلوب أن نعطي هذه العلاقات حجمها الطبيعي وبشكلها الإيجابي وذلك من خلال التكامل في كل شيء، وفي كافة المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية والعسكرية، وهذا هو الوضع الطبيعي».. واتسع الحوار لقضايا أخرى مهمة، واستطاع العميد البشير الرد عليها بشكل مباشر، وقلت في مقدمة الحوار الذي نشر بالكامل وعلى عدة صفحات في مجلة (التضامن) ونقلته وكالات الأنباء والصحافة العربية، إن أكثر ما يلفت النظر اليه سودانيته ووطنيته، وتواضعه وحضوره القوي وقدرته على الإحاطة والإجابة، وأنه يدرك حجم المسؤولية وما هو مطلوب، ولذلك شدد على الحوار الوطني السوداني وضرورة التلاقي لتحقيق التقدم للسودان وأهله. واختار الأستاذ فؤاد مطر على غلاف المجلة التي حملت صورة العميد عمر البشير العنوان التالي: في حديث «رجل الدولة».