كنهايات متوقعة لتلك البدايات المتأرجحة بين المشاركة في الانتخابات ومقاطعتها والتحفظ على نتائجها مسبقا، جاءت مواقف القوى السياسية متقاربة في قراراتها بشأن المشاركة في حكومة السودان المنتخبة، والتي ستكتمل أطوارها في يونيو المقبل لتخرج في هيئتها الجديدة.. ويبدو ان كثيرا من المياه ستجري تحت جسور هذه القوى حتى ذلك الموعد، إلا أن الشواهد تشير إلى أن غالب القوى زاهدة في المشاركة الاسمية لدواع تتعلق بالأوزان المفترضة، بجانب الأعباء المحددة والمبرمجة وفقا لاتفاق السلام الشامل، ووفقا لمجريات الحياة السياسية. ---- وكانت لغة عدد من القوى السياسية تتواءم وطبيعة المرحلة التي تمر بها الأحزب أو الأوضاع في البلاد، ففيما كان حزب المؤتمر الشعبي بزعامة د. حسن الترابي قد أعطى إشارات خضراء بقبول نتيجة الانتخابات كيفما جاءت، وابدى استعداده لخوض غمارها والاكتساح والتشتيت، قبيل بداية الإقتراع، عاد واستبق اعلان النتيجة بالطعن فيها، ومضى أخيراً أكثر من ذلك حيث اعلن انه لن يشارك في المؤسسات المنبثقة عن الانتخابات، وقال إنهم قرروا اعتزال ما سيترتب عليها من نيابة ومؤسسات، وحذا الاتحادي الديمقراطي (الأصل) حذو الشعبي وأكد أن مشاركته في الحكومة تتوقف على مدى تنفيذ برنامجه وليس توزيع الوزارات، وألمحت بعض تيارات الاتحادي الأخرى إلى انها لن تشارك في الحكومة كي لا تتحمل وزر انفصال الجنوب، وقد تكون مشاركة الإتحادي (الأصل) واردة رغم المسؤوليات الجسيمة حال تحسن عرض المؤتمر الوطني الفائز. ومضى الحزب الشيوعي والذي انسحب من الانتخابات إلى تأكيد انه غير معني بالحكومة الجديدة ومؤسساتها ومخرجات الانتخابات برمتها، ليكون السواد الأعظم من القوى المعارضة خارج إطار التركيبة القادمة لأسباب تختلف من حزب إلى آخر. أحزاب كبيرة وذات أوزان مقدرة بل وشريكة، رهنت مشاركتها في الحكومة القادمة بتنفيذ برنامجها كما هو حال الإتحادي، فالحركة الشعبية التي استأثرت بكل الجنوب منفردة، لا تريد لنفسها المشاركة في الحكومة الإتحادية وفق برنامج المؤتمر الوطني الذي احتل أفضل المراكز على مستوى الولايات الشمالية، وقبلها اكتسح رئاسة الجمهورية وحده، فرهنت مشاركتها في الحكومة الاتحادية ببرنامج يتوافق مع اتفاقية السلام الشامل واجراء الاستفتاء في مواعيده، وتركت الباب موارباً الى حين الاطلاع على البرنامج. وكان حزب الأمة القومي أكد أن لديه استعداداً للتعاون مع الحكومة الجديدة، شريطة الاعتراف بالمشاكل، وضرورة تعاون الجميع في حلها، رغم أنه أحد الذين قاطعوا الانتخابات ونتائجها. ويعتقد مراقبون أن طبيعة المرحلة التي يمضي نحوها السودان وما يكتنفها من غموض يضاعفه التعقيد السياسي، لكثرة ما يرتجى فيها من استحقاقات واجبة التنفيذ، تعتبر أحد أسباب عزوف هذه القوى عن السعي للمشاركة في الحكومة المقبلة، إن دعيت لذلك، رغم أن المؤتمر الوطني أكد أنه لن يجري مشاورات قبل تشكيل الحكومة، وأنها ستضم الذين يشاركون الرئيس البشير برنامجه وأفكاره، وأن من حقه تعيين وزراء من غير الفائزين في الانتخابات، وهو ما يمنح فرصة لتوسيع دائرة المشاركة. مرحلة ما بعد فوز البشير - حسبما ترى بعض القوى - ستشهد من الملفات الساخنة والقضايا التي تنتظر الحسم ما لا يقوى تمثيلها الذي يختاره المؤتمر الوطني على احتماله، فالفترة ما بين تكوين الحكومة الجديدة وأول الاختبارات هي ستة أشهر حيث يقف الاستفتاء على تقرير المصير في أول بوابات العبور نحو السلام والوحدة والاستقرار، ولعل الصادق المهدي، في حوار أجرى معه أخيرا، حدد المشكلات التي ستواجه الحكومة الجديدة والتي يعتبرها البعض أسباباً وجيهة لعدم الزج بأنفسهم في لجتها، فيما يرى آخرون أنها أسباب اكثر إلحاحا للمشاركة، يقول المهدي إن الحكام الذين ستفرزهم الانتخابات سيواجهون مشاكل كبيرة، منها تنفيذ الاستفتاء، وضرورة زيادة فرص الوحدة، والعمل في حالة عدم قيامها على انفصال أخوي، ومشكلة دارفور، بجانب الحريات، إضافة إلى الوضع الاقتصادي، ويذكر الديون التي على السودان، ويمضي إلى أهداف الألفية التي تستوجب إقامة شراكة بين الأغنياء والفقراء في العالم. وغير ذلك من اختبارات صعبة كثيرة على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي تواجه من سيأتون إلى مواقع القيادة والاستوزار. والتخوف ومحاولة نبذ الحكومة الجديدة هو موقف إضافي، غير الموقف الأساسي القائل بأن العملية الانتخابية برمتها لم تكن في المستوى المقبول للقوى المعارضة، وهو موقف لن تبرحه تلك القوى مهما كانت المواقف التي ستأتي بعد الانتخابات، ويعبر عن هذا القرار للمعارضة، القيادي بالحزب الشيوعي السوداني المهندس صديق يوسف، ويؤكد انهم لن يشتركوا فيما أسماه بجرائر المؤتمر الوطني، ويقول إنهم سيتركون الوطني يتحمل أوزار الأخطاء التي تقع مستقبلا. ويضيف أنه مهما كانت المواقف التي ستتخذ لدى تكوين الحكومة وبعده فإنه لا أحد سيشترك فيها، ويشير إلى أنهم غير معترفين أصلا بالنتيجة ويطالبون بإعادة الانتخابات، وأن تأتي حكومة متفق عليها، بعد إلغاء السجل الانتخابي وتوزيع الدوائر الجغرافية، وأن تكون مهام الحكومة الجديدة التمهيد لانتخابات في جو ديمقراطي. ويمضي المهندس صديق إلى توصيف الأجواء الحالية بأنها مثل أجواء ما قبل اتفاقية السلام الشامل، وبالتالي فإن مواقفهم هي ذات المواقف قبلها. ونبرة (الحردان) هذه والتعامل مع الحكومة التي ستتضح ملامحها قريبا وكأنها وزر كبير تحاول القوى السياسية رميه بالكثير من الحجارة، يفسرها البعض بأنها تحايل على الواقع القائم ومحاولة لكسر حدة مواقف المؤتمر الوطني القاطعة تجاه مشاركة البعض سواء أكان في حجم المشاركة أو نوعها، فقد حدد المؤتمر الوطني أولئك الذين سيكون لهم حظ في حكومة البشير الجديدة.. ويرى د. صفوت فانوس استاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم، أن المخاوف والمهام الكبيرة المرتبطة بالفترة المقبلة لن تكون سببا في احجام القوى عن المشاركة في الحكم، ويقول إن المؤتمر الوطني، بالضرورة، لن يعطي الأحزاب التي قاطعت الانتخابات نصيباً من الحكومة الجديدة، لكن على مستوى أحزاب كالإتحادي (الأصل) وأجنحة حزب الأمة المنشقة والأخوان المسلمين وغيرها، لن يكون هناك اتفاق على كلمة سواء، ويمكن أن تكون هنالك أجنحة لديها مصالح محددة في المشاركة وتطلعات معينة، وبالتالي تصبح في السلطة وتأخذ ما يمنحه لها المؤتمر الوطني، ويقول إن الإتحادي بالذات يصعب التكهن بمواقفه لأنها قابلة للتبدل من وقت لآخر، وهناك تيارات كثيرة ومجموعات متعددة. ويعود فانوس لاستبعاد تأثير المخاوف التي تذكرها بعض القوى والمراقبين على المشاركة أو على الحكومة نفسها، ويقول إن الشريكين ومنذ توقيع اتفاق نيفاشا يعملان على تجاوز عقباتهما بالتفاهم والإتفاق بأي شكل من الأشكال، وبالتالي وفي مسألة الاستفتاء بالذات سيعملان على تحديد صيغة معينة وباتفاق سياسي بينهما تجنباً لأي موقف انتحاري كالعودة للحرب. رغم أنه يستبعد مقدرة الشعب على التأثير في القرار المناسب، لأن النخب هي من يحدد توجهات الرأي العام. وكيفما كان الأمر، فإن بعض القوى السياسية تصور الحكومة المرتقبة وكأنها إثم كبير، يجب اجتنابه، وتعمل على اقناع الآخرين بحذوها، وتحذر من المخاطر التي ستواجهها لو ظلت وحدها، فيما تأمل قوى أخرى لو أنها أدخلت إلى هذه السلطة بأية صيغة، وتبقى المسافة الفاصلة بين هذه التكهنات وبين تاريخ اعلان الحكومة هي من يصدق هذه المزاعم أو يكذبها