حملت الصحف الصادرة يوم الخميس الماضي نذر الشر الأولى، وبداية الحصاد المر لدعوة منبر (الشؤم) ومن لفّ لفه من الأنفصاليين, حيث كشفت ندوة »الأوضاع الاقتصادية في السودان في حال الانفصال«، التي نظمتها دائرة الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية بوزارة العلوم والتكنولوجيا, عن جملة الآثار السالبة على الميزانية حال أنفصال الجنوب. وقال الشيخ محمد المك وكيل وزارة المالية الأسبق، إن جملة الفاقد الإيرادي حال الانفصال ستصل الى (6.7) مليارات دولار أي بنسبة (33%) من إيرادات الخزينة. وفي ذات الندوة دعا صابر محمد الحسن محافظ بنك السودان إلى ضرورة إيجاد المعالجات بتفعيل الصادرات غير البترولية وترشيد الانفاق وتوجيه الموارد وتحديد الأولويات بعناية فائقة واتخاذ سياسات راشدة للخروج من المرحلة التي وصفها ب »الحرجة« خاصةً السنوات الأولى. تجول بخاطر من يقرأ ويستمع لهذه التصريحات العديد من التساؤلات المشروعة حول توقيتها ومدى القدرة على علاج المشاكل المثارة فيها, فلماذا صمتت الحكومة عن الحديث عن مخاطر الانفصال طيلة السنوات الخمس الماضية ؟ فهى عندما وقعّت اتفاق سلام نيفاشا كانت تعلم أنّ استحقاق الاستفتاء قادم وقد يقود للانفصال ومع ذلك لم تبصّر المواطنين بالصعوبات الأقتصادية التي ستترتب عليه. ولماذا لم تعمل علي الأستفادة من أموال البترول بتوجيهها نحو إحداث طفرة حقيقية وكبيرة في الزراعة والصناعات التحويلية ؟ يعلم الجميع أنّ الزراعة هى قاطرة الأقتصاد السوداني والمصدر الرئيسي لنموّه, ومع ذلك فشلت كل الخطط الحكومية في الأرتقاء بها, فمع كثرة الحديث والضوضاء عن (النفرة) و (النهضة), ومع وجود عشرات الوزراء ( مركزيين وولائيين), تدهورت الزراعة بشقيها المروي والمطري تدهورا مريعا, وانهارت الصناعة المرتبطة بها وهي صناعة النسيج (99 % من مصانع النسيج متوقفة)، وأصبح البترول يشكل (95 %) من صادراتنا بحسب تقارير صندوق النقد الدولي, فكيف يمكننا بعد ذلك « تفعيل صادراتنا غير البترولية « ؟ وهل لدينا يا سيادة محافظ بنك السودان صادرات غير منتجات الزراعة حتى نفعّلها ؟ تقول تقارير صندوق النقد الدولي أنّ عائدات البترول السوداني في الفترة (1999- 9002م) قد بلغت حوالي (50 مليار دولار), فكم من هذه الأموال تمّ توجيهها للزراعة أو البنيات الأساسية ؟. أنّ اكبر مشروع أنجزته حكومة الأنقاذ منذ مجيئها وهو «سد مروي» قد تم تمويله بقرض واجب السداد فأين إذاً ذهبت أموال البترول ؟ ولماذا لم يتم توجيه الموارد وتحديد الأولويات طيلة السنوات الماضية بينما يتم الحديث عنها بعد فوات الأوان ودخول الفترة الحرجة ؟ إنّ البدائل التي طرحت في تلك الندوة لمعالجة فاقد الايرادات التي ستحدث حال انفصال الجنوب تمثلت في ضرورة زيادة الجهد الضريبي والاعتماد على وسائل فعالة للتمويل مثل اصدارات الصكوك والسندات وترشيد الانفاق العام والتمويل الخارجي واقناع الجنوب بالاستمرار في الشراكة لعائدات البترول لحين إكمال بنياتهم التحتية، وكذلك الإسراع في اكتشاف النفط بالشمال. إنّ زيادة الجهد الضريبي تعني ببساطة شديدة زيادة (العبء الضريبي) على المواطنين إضافة الى إرهاقهم بالمزيد من الرسوم والجبايات الحكومية, وبالتالي العودة الى سيرة الأنقاذ الاولى حيث (دمغة الجريح, ودمغة الشهيد, ودمغة , ودمغة, وهلمجرا). وفيما يختص بالتمويل بواسطة الصكوك والسندات, فهذا النوع من التمويل يعتمد في الأساس على ثقة المموليّن في مقدرة الحكومة على سداد الأصول والأرباح, وذلك من خلال وجود ضمانات ( مثل البترول), وهذا الأمر لن يتوافر حال حدوث الانفصال, وفي هذا الصدد يمكننا الرهان على أنّ الممّولين الحاليين عبر السندات (شهامة وتفريعاتها), سيبدأون في التململ والخوف مما ستؤول اليه الأحوال في الثمانية اشهر الحاسمة القادمة, وبالتالي فإننا نتوقع انخفاضاً حاداً في الموارد المجلوبة عن طريق هذا النوع من التمويل, وعدم القدرة على استقطاب مموّلين جدد. إنّ ذات القول الذي أوردناه في أمر التمويل بواسطة الصكوك والسندات ينطبق على أمر التمويل الخارجي. فالجميع يعلم أنّ التمويل الخارجي لم يتدفق على السودان الأّ بعد أكتشاف البترول الذي يعد ضمانة كبرى للمموّلين الخارجيين (بنوك أو مؤسسات). والمتوقع هو انحسار هذا النوع من التمويل حال حدوث الانفصال وذهاب (70 %) من موارد البترول الى دولة الجنوب الوليدة. قد طرحت الندوة أمر ترشيد الإنفاق العام كأحد الحلول لتعويض العجز في الأيرادات الذي سيتسبب فيه انفصال الجنوب. والشق من الصرف الذي يعنى بتعبيد الطرق وبناء المدارس وتشييد المستشفيات, لا شك سيشهد تراجعاً كبيراً, وهو في الاساس لم يكن في مقدمة أولويات الصرف حتى مع وجود البترول (التعليم والصحة نصيبهما لا يتعدى( 5 %) من الميزانية). أما الصرف على الأجهزة الأمنية والقوات النظامية (الجيش والشرطة) فقد فاق ال( 60 %) من الميزانية. وقد شكّل جهاز الحكم الفيدرالي المتضخم القائم على الترضيات السياسية وليس حاجات الأدارة الفعلية عبئا اضافيا على الميزانية (اختلاق وظائف مثل «معتمد الرئاسة» و»الخبير الوطني» ليس لها مثيل في أي نظام في العالم).ولا يبدو أنّ في نيّة الحكومة المساس بأوجه الصرف الأخيرة هذه, بل ربما ازداد الصرف عليها بعد الانفصال بحجة الحفاظ على استقرار الحكم ولمواجهة المطلوبات الأمنية لمرحلة ما بعد قيام دولة الجنوب. قد أقترحت الندوة « إقناع الجنوب بالاستمرار في الشراكة لعائدات البترول لحين اكتمال بنياتهم التحتية», وهذا الأمر يتطلب قدرا من الثقة غير متوافر الآن, وسيعتمد كثيرا على الطريقة التي سيتم بها إجراء الاستفتاء والقبول بنتيجته. ففي ظل المشاكل والمشاكسات التي تسم علاقة شريكى الحكم (الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني) لا يتوقع المرء أن يتم الاستفتاء بسهولة وسلاسة, وكان الأمين العام للحركة الشعبية قد صرّح بأنهم « سيعلنون الاستقلال من طرف واحد ومن داخل برلمان الجنوب» في حال استمرار مماطلة الشريك الحاكم. إنّ أجراء الأستفتاء في ظل حالة العداء والأختلاف لن يعيق مستقبل العلاقة بين الشمال والجنوب فحسب بل قد يعيد الطرفين الى مربع الحرب, والحرب هذه المرّة لن تكون حربا أهلية بل حرباً بين دولتين. أما فيما يختص بتوصية الندوة بضرورة الأسراع في اكتشاف النفط في الشمال فهو رهان على المجهول, فمن المعلوم بالضرورة أنّ جهود الحكومة في هذا الصدد لم تتوقف منذ عقد من الزمان ومع ذلك لم تظهر كميات مؤكدة من حقول البترول في الشمال, وكل ما يرشح من معلومات في هذا الصدد -مع قلتها- تقول بأن هناك مناطق مرشحة لانتاج كميات كبيرة. وبذلك يصبح من غير المنطقي الاعتماد على مورد غير موجود لعلاج مشاكل ماثلة. لا يبدو أنّ الحلول التي طرحتها الندوة متاحة في ضوء المعطيات الاقتصادية والسياسية التي تسود حاليا, والحل الوحيد المؤكد والذي برعت فيه هذه الحكومة منذ اطلالتها الأولى قبل عقدين من الزمان هو زيادة العبء الضريبي على كاهل المواطن وإرهاقه بالمزيد من الجبايات, وهو الأمر الذي يجعلنا غير متفاءلين بمالات المستقبل حال انفصال جنوب السودان. واذا صدق تحليلنا هذا فإنّ الثلاثة أعوام القادمة ستكون نسخة من سنوات الأنقاذ الأولى, حيث شح الموارد المالية, والتضييق على المواطنين في معيشتهم, والمناداة بربط الأحزمة على البطون.