يقع الجزء الشمالي من كردفان في منطقة شبه الصحراء والجزء الأوسط ضمن السافنا الفقيرة أما الجزء الجنوبي فهو في منطقة السافنا الغنية. والأمطار في كل هذه المناطق تهطل خلال فصل الخريف الذي يبدأ عادة في شهر يوليو ويستمر حتى أكتوبر من كل عام وتزداد معدلات الأمطار كلما انتقلنا من الأجزاء الشمالية الى الأجزاء الجنوبية. أما سبل كسب العيش بالنسبة للسكان والحرف التي اعتادوا عليها فتختلف حسب المنطقة الجغرافية. ففي المناطق الشمالية من كردفان نجد أن حرفة رعي الإبل هي السائدة وتقل الأنشطة الزراعية وأحياناِ تنعدم تماماً. وفي المناطق الوسطى من كردفان حيث السافنا الفقيرة ومعدلات هطول الأمطار المتوسطة نجد أن النباتات والحشائش القصيرة والشجيرات المتفرقة تغطي معظم أنحاء هذه المنطقة ويحترف السكان رعي الضأن الحمري وهو من أجود السلالات التي تربى في السودان للحومها التي تسد حاجة الإستهلاك المحلي وتدعم الصادر بأعداد كبيرة ونسبة لأن الحيوانات السودانية تتغذى على الأعشاب والنباتات الطبيعية فإنها الأفضل في الأسواق العالمية وخاصة السوق الخليجي. ويحترف جلَّ المواطنين في هذه المنطقة الزراعة المطرية التقليدية ويزرعون عادة الفول السوداني والبطيخ الذي يعتبر حبه من المحصولات النقدية الى جانب الدخن والذرة وجني صمغ الهشاب. وفي المناطق الجنوبية من كردفان حيث السافنا الغنية تربى الأبقار حيث تتوافر المياه والأعشاب. وتعلن بداية الخريف في كردفان سحابة صغيرة تلوح في الأفق ويعرفها الرعاة والمزارعون الكردفانيون حق المعرفة ويسمونها «أم بشار» ويقولون (أم بشار طقت) أي أن السحابة التي تحمل البشرى لإنسان كردفان قد ظهرت وما هي إلا أيام حتى تتجمع السحب الداكنة الثقال لتروي الأراضي والسهول الخصيبة. والفترة التي تسبق الخريف مباشرة يسمونها أهل كردفان الرشاش وفي هذه الفترة تحل النسيمات الندية محل السموم اللافح الذي يهب في فصل الصيف. والرشاش نتيجة لهطول الأمطار في المناطق الجنوبية من كردفان. ومجرد هبوب نسمات الرشاش التدية المشبعة بالرطوبة يؤدي الى إيراق بعض الأشجار وتصحب فترة الرشاش عادة نسمات الدعاش وهي أيضاً ندية ومحملة بالرطوبة ويسعد بها المواطنون كثيراً. وبما أن فصل الخريف في كردفان الجميلة هو فصل المياه والإخضرار فإن الكثبان الرملية والسهول الممتدة تدب فيها الحياة وتهتز الأرض وتربو فلا غرو أن يتغنى أهل كردفان بالخريف والرشاش الذي يمثل طلائع الخريف. وفيقول أحد الشعراء الشعبيين: المطرة الشايلة ** صبت ضحا قايلة ويقول آخر: مطر الرشاش الرشة في دار كردفان الهشة ويسعد أحد رعاة الإبل البدو عندما يرى برقاً يلمع في الأفق فيقول مستبشراً: (داك براقاً قبلي ** فوق عربي وفوق إبلي يا بخيت أحلب لي ** لبن أم زور طايب لي) ودرج المزارعون في مناطق كردفان الوسطى على ممارسة ما يسمى بزراعة (الرميل) وذلك ببذر بذور الفول السوداني والغلال في الرمال الجافة وتوصل المزارعون الى استعمال أنواع من البودرة تنفِّر منها الجرذان وغيرها من الآفات التي تبحث البذور المزروعة وتأكلها. وما أن يهطل أول الغيث حتى تنمو زراعة الرميل وتجود. ومع أول أمطار غزيرة تمتلئ الغدران والبرك والرهود والخيران والحفائر والفُوَل (بضم الفاء وفتح الواو، وهي جمع فولة وتعني حفير المياه الكبير) ومعظم هذه الموارد المائة تحتفظ بمائها طيلة أشهر الصيف وحتى قدوم الخريف الجديد. ومع هطول الأمطار تكتسي سهول كردفان الخصيبة بالغطاء النباتي السندسي الجميل ومع وجود المياه في المسطحات المائية والغدران فإن لوحة الجمال الكردفان الزاهية تكتمل وتتم عناصر الجمال الثلاثة وهي الخضرة والماءوالوجه الحسن التي تذهب عن الإنسان الحزن وتدخل في نفوس أهل كردفان السعادة والبشر والحبور ويقولون إن جو كردفان الخريفي جو أوروبي وهذه ليست مبالغة خاصة في فصل الخريف. ويخطط أهل المواشي لتلد حيواناتهم الإناث في بداية هذا الفصل فتجد الحملان والسخلان والعجول والحواشي الكلأ الأخضر وسرعان ما تكتنز شحماً ولحماً ويضرب المثل (بحمل الخريف) في امتلاء جسمه وإرتوائه وقضائه سحابة يومه في الجري والقفز وكما يقولون ( سمحة العافية). واهتمت الدولة بمشروعات توفير المياه بغية المساعدة في استقرار الرحل وبجميع القرى توطئة لتقديم الخدمات الأساسية لها. ومن أبرز هذه المشروعات (مشروعات حصاد المياه) بحفر حفائر جديدة ذات سعة تخزينية كبيرة وتوسيع الحفائر القديمة وإقامة السدود لتجميع مياه الأمطار الى جانب حفر المزيد من الآبار الإرتوازية وقد أتت كل هذه المشروعات أكلها. وبعد أن كان المزارع في غرب كردفان يبذر بذور البطيخ التقليدي المقاوم للجفاف والعطب والذي يبقى على حالته طيلة عام كامل دون أن يحفظ في أماكن مبردة - بدلاً من زراعة البطيخ بطريقة الرميل أي بذر البذور في التربة الجافة انتظاراً لهطول الأمطار فقد تحول المزارعون الى زراعة بذور البطيخ في أكياس قبيل هطول الأمطار وتعهد هذه الشتول بالري. وعندما تهطل الأمطار تكون هذه الشتول قد نمت وطالت بضع سنتمترات فينزلها المزارع في التربة المبتلة فتنمو نمواً سريعاً. وعوضاً عن البطيخ التقليدي الصغير الحجم الذي لا ينافس البطيخ الوارد من المشاريع الزراعية المروية فإن بذور هذه الشتول تأتي من أجود الأنواع العالمية من البذور المحسنة فلا غرو أن تجد التسويق والرواج حتى في أسواق الخرطوم وتتميز هذه الأنواع الجديدة بحلاوة طعمها. ونظراً لتوافر الكلأ في كردفان خلال فصل الخريف فإن الألبان تصبح متوافرة وتكثر مشتقاتها وأهمها السمن في كردفان ومن أشهر مناطق صناعة الجبن في كردفان قرية كازقيل وهي ضاحية من ضواحي الأبيض وتنتج كميات كبيرة من الجبن المضفر والذي يسد حاجة الإستهلاك المحلي في كردفان وينقل للأسواق الكبيرة في مدن السودان كالخرطوم وغيرها. ونذكر قول الشاعرعبد الله عبد الرحمن: كم للطبيعة في السودان من فتى ** وكم لأطيارها من حسن ألحان مما يضفي على البيئة الكردفانية جمالاً وبهاءً في الخريف قدوم أسراب كبيرة من الطيور مثل «طير البقر» الأبيض الذي يسمى في كردفان «الرهيو» ويسمى طير البقر لأنه يسير خلف الأبقار وهي تسير وترعى لأن حركة مشيها تحرك الأعشاب فيطير الجراد وغيره من حشرات الخريف فيلتهمها طائر البقر. كما تأتي لكردفان أسراب من السمبر الذي يسميه أهل كردفان «الكلجو» ويجمع بين اللونين الأبيض والأسود وفترة الخريف بالنسبة لهذه الطيور هي فترة التزاوج فتختار الأشجار الشوكية مثل الهجليج والتي لا تستطيع القطط الصعود إليها لأشواكها الحادة. وعادة يبني السمبر أعشاشه في قمة الأشجار الشوكية ودأب «طائر البقر» على بناء عشه بالقرب من السمبر. ويضرب المثل بهذا الطائر في سوء الجيرة لأنه يترك السمبر ليذهب لإحضار الأغصان فيقوم بسرقة بعض الأغصان ليبني بها عشه (منتهى الكسل والتواكل) وصدق الشاعر السوداني الذي قال: والخريف لو طال غيابو الطيور تبدأ إرتحالها ويقال إن بعض الطيور التي تأتي لكردفان في فصل الخريف تقطع آلاف الأميال قادمة من قارات أخرى مثل أوروبا وتعود بعد أن تكبر أفراخها وتقوى على الطيران في رحلة العودة الطويلة، ويغني الأطفال للسمبر قائلين (كلجو كلجو.. عين الداجو.. ساكنة بعيدة.. في الهجليجة.. تدي صغارها بمنقارها). وخلال فصل الخريف وهو فصل الزراعة التي تتم خلاله معظم العمليات الفلاحية من بذر البذور وإزالة للنباتات الطفيلية وهي العملية التي تسمى ب (الحش) وبعد أن تستوي النباتات على سوقها تجرى عملية الحش الثاني المسماة ب «الجنكاب» ويقبل المزارع الكردفاني بهمة ونشاط على تعهد زراعته وفي أغلب الأحيان تعمل كل أسرة سوياً. ودأب المزارع الكردفاني على إقامة النفير وهو تجمع أعداد من القرويين لمساعدة أحدهم الذي يذبح لهم شاة عادة على سبيل الضيافة. ويمكن للمزارع الذي يزرع قطعة أرض كبيرة أن يستأجر العمال الزراعيين لمساعدته. وعندما يحين أوان الدرت تبدأ بواكير المحاصيل في الظهور وفي مقدمتها منتوجات «الجبراكة» وهي المزرعة الصغيرة الملحقة بالمنزل وتشرف عليها عادة العجائز كبيرات السن وتنتج هذه الجباريك اللوبا الذي يسمى الأخضر منه «النرمتي» كما تنتج التبش والذرة الشامية والبامية والعنكوليب.. وعندما يحين وقت الحصاد يقطع المزارع سنابل الذرة والدخن ويضعها في مكان فسيح نظيف يسمى «الجرن» وعندما تجف تتم عملية «الدق» للحصول على الغلال. وأول ما يفعله المزارع وضع مؤنة عامة من الذرة في المطمورة ثم ينقل الفائض الى الأسواق. أما البطيخ فيوضع في راكوبة تسمى «الكرياب» ويبقى على حاله حتى الخريف القادم. وهكذا فإن كردفان في الخريف لا تدب فيها الحياة فحسب بل تصبح واحدة من جنان الله في أرضه. وتظل صورة كردفان الخريفية ولوحاتها الرائعة البديعة في ذاكرة كل من يزورها ولا تبرحها أيضاً ما دام حياً. ويطيب لي أن أورد هنا مطلع رائعة الشاعر صلاح أحمد ابراهيم وأهديها الى كردفان الجميلة (أم خيراً جوه وبره) والى إنسانها الرائع الذي يجسد مكارم الأخلاق وأروع السجايا والشمائل السودانية. يقول صلاح: بالله يا الطير المهاجر للوطن زمن الخريف تطير بسراع وما تضيع زمن أوعك تقيف وتواصل الليل بالصباح تحت المطر وسط الرياح وكان تعب منك جناح في السرعة زيد في بلادنا ترتاح ضل الدليب أريح سكن