رَحِمَ الله أيّاماً كان الراديو فيها سيد الوسائط.... كان هو الأصل والصورة، المَرْجِع والمُفتى، وجامعة للبعض ومدرسة لتعليم الكبار لآخرين... فى تلك الأيّام لم يكن من سبيل للإنتماء للعصر الحديث بدون أن تضع فى صدر البيت راديو ليكون هو الضيف الوحيد المسموح له برفع صوته والدخول إلى الآذان بدون إذن! أنا واحد ممّنْ تحدّروا من صُلب بنى آدم وترائب بنات حواء وقام الراديو بتربيتهم الإعلاميّة فأحْسَنَ تربيتهم... رأوا بآذانهم ما لا تراه العيون، تشهد على ذلك الموجات الطويلة المتوسطة والقصيرة والهوائى، فقد كان بينى والراديو إرتباط عناق وأحضان وبث! فى مرحلة حَبْوى وقعت عيناى على صندوق يتوسّد صالة المعيشة بمنزلنا يضم بداخله الجيل الأول من الراديو... فبدأت معرفتى بالأُذن قبل العين, لهذا أقدّم خالص إمتنانى لذلك الصندوق الذى يحتوى فى جوفه أصواتاً وأناملَ! وجاء يوم بارز فى (مسيرتى) مع الراديو حين دخل علينا بالمنزل راديو قورنديق (Grundig) الذى كان طفرة وحدثاً وحديث مدينة... وأكلت الايّام السنوات ودارت تكنولوجيا الراديو حول نفسها وحول تكنولوجيا الإتصال فتعدّدت أشكال الراديو وألوانه وأحجامه ودول المنشأ له، لكنْ احتفظ الراديو بمقعده الأوّل بين الوسائط... فزارنا بالمنزل راديو (فيلبس), واجتاحتنا ثورة الترانزستور التى فجّرتها اليابان فى وجه الراديو فسيطرت اليابان على الذبذبات والترددات ثمّ تنازلت قليلا للآخرين ولبعض النمور الآسيويّة فصار الراديو ناطقا بكل اللغات! كان الراديو لى المُعَلّم الأوّل للقراءة الأصح لقرآن الله المكنون، ونقطة متابعة تطورات حركات التحرر الوطنى ومقياس درجة حرارة الثورات والإنقلابات... وكان استاذ التربية الوطنية والتربية الموسيقّية, والمُفَكِر الإذاعى, ومُبْتَدِع الصداقة مع الأصوات! فى أيّامنا السائدة تَرَاجَعَ مركز الراديو فى صف الإتصالات, ولكنّه باقٍ فى موقعه بالصف عند كثيرين (أنا أحدهم), وإنْ تغيّرت طبيعة العلاقة وتوقيتها فصارت علاقة سريريّة تنتعش بالليل... علاقة فِراش! اليوم قبضت بين يدىّ على راديو قوريندق( Grundig) فعدت إلى النقطة الأولى... تحرّرت من إحتلال اليابان وتايوان والصين لأُذنى باستعادتى راديو الطفولة, فقدّمت سَنداً إضافياً بأنّ الأُذن تعشق قبل العين أحياناً!!