شهدت الأشهر القليلة الماضية ارتفاعاً كبيراً في أسعار معظم السلع بصورة مزعجة للمواطن كمستهلك نهائي وللحكومة، حيث ارتفعت معدلات التضخم وزادت حدة المضاربة على بعض السلع وعلى رأسها السكر مما جعل موضوع ارتفاع الأسعار يأتي كأولوية على لسان المسؤولين ويحظى بتغطية واسعة في الصحافة. السودان بلد زراعي في المقام الأول ويعتمد في ارتفاع الناتج المحلي الاجمالي على نجاح موسم الخريف وهو ما افتقدناه خلال عامي 2008 و2009م الأمر الذي ادى الى استنزاف كل المخزونات من الحبوب وغيرها سواء أكان ذلك لدى الجهات الرسمية كالبنك الزراعي والمخزون الاستراتيجي أو كان ذلك لدى التجار وصغار المزارعين مما دفع بأسعار الحبوب الى أعلى قيمة لها منذ الاستقلال. وما يقال عن الحبوب ينطبق على بقية المحاصيل الزراعية مثل الحبوب الزيتية فارتفع سعر الزيوت لأكثر من (50%) خلال موسم واحد وارتفعت الأجبان والزبادي لانخفاض كميات الألبان المنتجة وارتفعت الصلصة لارتفاع قيمة الطماطم الى مستويات قياسية، وارتفع الدقيق ومشتقاته بعد سماع أخبار وقف الصادرات الروسية للقمح وغمر الفيضانات لأراضي باكستان الزراعية والجفاف في استراليا. وهنا أشير الى أن العامل الاضافي لزيادة سعر القمح والدقيق محلياً هو ارتفاع أسعار الذرة والدخن وتحول الكثيرين لاستهلاك القمح في الشهور الماضية. هذا وقد ارتفعت الخضر والفاكهة أيضاً بصورة كبيرة فتضاعف سعر العجور والطماطم والبامية وغيرها في أغسطس الى عدة اضعاف سعرها في شهر مارس، أما اللحوم بأنواعها المذبوحة والمصنوعة فحدث ولا حرج فقد بلغت أسعاراً عالية في شهر أغسطس، ومما فاقم نسبة الارتفاع تزامنه مع شهر رمضان الذي يزداد استهلاكه فيه. وبمثل ما أثر فشل الخريف في العامين الماضيين على انتاج الحبوب والخضر والفاكهة فإنه أضر بالمحاصيل النقدية وقلل من انتاجها مثال ذلك الصمغ العربي والقطن والكركدي وحب البطيخ وغيرها من سلع الصادر مما أثر سلباً على تدفق النقد الأجنبي. وتعتبر سلعة اللحوم الحية والمذبوحة استثناء من هذه القاعدة إذ تزيد الصادرات في موسم الجفاف، حيث يتخلص الرعاة من عدد كبير منها بينما يتمسكون بها في مواسم الخريف الناجحة وهذا ما يفسر انخفاض أسعار الماشية في شهري مايو ويونيو وارتفاعها في أغسطس وسبتمبر من كل عام. نستنتج من كل ما سبق أن هطول الأمطار الغزيرة هذا العام في كل مناطق الزراعة المطرية والمروية وتوزيعها الزمني الممتاز وإقبال المزارعين بقوة على الزراعة هذا العام سيجعل انتاج هذا العام غير مسبوق في انتاج كثير من السلع مثل الحبوب الغذائية والزيتية واللحوم والخضر والفاكهة وغيرها، كما ان الفيضان الكبير وانحسار النيل عن جروف خصبة يعد بانتاج كبير من الخضر والفاكهة والبطيخ والشمام والعجوز وغيرها، ويترتب على ازدهار الانتاج الزراعي انتعاش القطاع الصناعي الذي يعتمد معظمه على مدخلات زراعية، حيث سيتضاعف انتاج مصانع العلف والزيوت والصابون والصلصة والمربى والطحنية وغيرها بعد حصاد الانتاج الجديد في شهر نوفمبر، حيث تكون قيمة مدخلات الانتاج في ادنى قيمة لها. هذا ومن المتوقع ان يبدأ نزول أسعار المحاصيل الزراعية خلال شهر أكتوبر، حيث سيقوم التجار بطرح كامل المخزون قبل حصاد المحاصيل الجديدة، وهذه بشرى أزفها للمواطن والمستهلك ولنقابات العمال بأن انخفاض أسعار السلع المنتجة محلياً المرتبطة بالخريف قد أصبح وشيكاً وبنسبة عالية، بل قد ينقلب الحال ويطلب المنتجون الدعم خوفاً من انخفاض الأسعار الى مستوى تكلفة الانتاج أو أقل خاصة الحبوب الغذائية والزيتية مما يتطلب تدخل الدولة لشراء الفائض أو تصديره أو فتح الحدود مع الدول المجاورة أو غير ذلك، ولعل ارتفاع أسعار الخيش حالياً خير دليل على توقعات ضخامة انتاج الذرة، هذا ويتعين على الدولة منع تدهور أسعار السلع دون تكلفة انتاجها، كما يحدث لبعض السلع بصورة متكررة مثل البصل والطماطم والمانجو، وبالفعل فقد انخفض سعر صفيحة الطماطم من (70) جنيهاً إلى (10) جنيهات والمطلوب جذب استثمارات في مجال صناعة تجفيف البصل وصناعة الصلصة والتمور ومركزات المانجو في أبي جبيهة وصناعة العلف وغيرها. من جانب آخر فان هناك سلعاً مستوردة وهذه بطبيعة الحال ترتبط أسعارها بالأسعار العالمية وسعرالدولار وتوافر السلع البديلة مثل الارز والعدس فهي تنخفض نسبياً بانخفاض الذرة والفول المصري وترتفع بارتفاعها. بلا شك فإن زيادة الانتاج الزراعي يعني زيادة دخل المزارعين والتي تصب في شراء سلع وخدمات مما يقود لانتعاش في كافة القطاعات الاقتصادية بما في ذلك وسائل النقل من بطاحات ولواري تنتعش بعد طول ركود هذا وينتج عن الانتعاش الاقتصادي وزيادة الحركة التجارية ارتفاع ملحوظ في ايرادات الدولة الاتحادية الولائية من الضرائب والرسوم للعام 2011م ويأتي هذا الارتفاع في الايرادات في وقت عصيب تبحث فيه الدولة عن بدائل لعائدات البترول خاصة في حالة حدوث الانفصال. وأخيراً أقول إنه لاحت بشائر انخفاض أسعار كثير من السلع بفضل الله الذي أكرمنا بخريف واعد ولا يفصلنا عن هذا الانخفاض إلاّ أقل من شهر نرجو ان يفيد هذا الانخفاض المواطن وقطاع الصناعة دون ان يتضرر منه المنتج.