التاج عثمان محرر التحقيقات الاستقصائية في (الرأي العام) قدم عملاً صحفياً ناجحاً عندما كشف قصة الشقيقين اللّذين حبستهما والدتهما (13) عشر عاماً في منزلها بمدينة الثورة. ولا شك أن الصحافة التي تهتم بالظواهر الاجتماعية السلبية وتسهم في الحد منها ، تستحق من المجتمع كل الولاء والمساندة. أقول قولي هذا وفي ذهني ما تذكره بعض تقارير المجتمعات الحديثة في العالم أن الفرد بات معرّضاً لمخاطر الإيذاء في بيته أكثر من الطرقات والشوارع والأماكن الأخرى. ولعلها مفارقة عجيبة أن يتحول البيت الذي يرتبط بالأمن والسكينة والتعاطف إلى مكان لتبادل الأذى النفسي والجسدي ، وقديما قالوا في المثل: من مأمنه يؤتى الحذر! عندما كلفتني جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية العام الماضي بإعداد دراسة عن دور وسائل الإعلام في الحد من ظاهرة العنف الأسري ، سألت نفسي: هل يعدّ العنف الأسري شيئاً خطيراً يستحق الاهتمام ، وكنت مشغولاً بتحديد ما إذا كان العنف الأسري مجرد حالات فردية أم أنه مشكلة اجتماعية أم ظاهرة. لم تكن بين يدي إحصائيات يعتمد عليها ، مع أن المسح الاجتماعي هو أول الطريق لمعالجة أي موضوع من هذا النوع. ولإكمال النقص في هذا الجانب تقدمت بأسئلة لطائفة من الخبراء العالميين في الصحة النفسية والتربية وعلم الاجتماع ، وكانت الحصيلة أن ثلثي هؤلاء الخبراء رأوا أن العنف الأسري يرقى إلى مستوى الظاهرة في مجتمعاتنا ، بل ذهب البعض منهم إلى القول بأنه أزمة اجتماعية. بعض المجتمعات التقليدية احتفظت بقدر كبير من الاحترام للمرأة. نجد في اليمن مثلاً أن ضرب الرجل للمرأة يعتبر عيباً كبيراً ، والنساء في مناطق النزاعات يتعرضن لشتى أنواع الإيذاء كما حدث في العراق إذ أشارت الإحصائيات إلى ازدياد وتيرة العنف بشكل كبير حتى أن المخطوفات في سنة واحدة بلغ عددهن أكثر من ثلاثة آلاف ، وانضاف إلى عدد المطلقات سبعة ملايين مطلقة في سنوات الحرب. وهناك صور غريبة للعنف في بعض المجتمعات فقد حدّثني طبيب للنساء والتوليد من جوهانسبيرج هو الدكتور أحمد آدم أن هناك اعتقاداً ضاراً في جنوب إفريقيا أن الشخص الذي يصاب بمرض الإيدز يشفى بمجرد مواقعة صبية في مقتبل العمر ، فانتشرت لذلك حالات العنف والاغتصاب. وقفت أيضاً في أثناء الدراسة على استبيان نادر من ولاية الخرطوم أشار إلى تعمق الظاهرة ، وأن أسباب العنف الأسري هي حسب الترتيب : الجهل ، والضغوط الاقتصادية ، والعادات والتقاليد ، وضعف الوازع الديني ، وإفرازات الحروب. نعلم أن الدولة بدأت تتبع خطوات على مستوى وزارة العدل والشرطة للحد من العنف ضد المرأة والطفل منذ بدء النزاع في دارفور العام 2003 منها إعلان القضاء على مكافحة العنف ضد المرأة والطفل ، وهناك تدريب للشرطة النسائية على التحري مع النساء المعرضات للعنف ونفذت ورش عمل لرفع الوعي وإصدار عدد من المنشورات الجنائية لتوضيح كيفية التعامل مع ضحايا العنف. ولكن لا يزال هناك اعتقاد سائد لدى أكثر الأوساط المعنية في الدول العربية أن جرائم العنف والمخدرات والجريمة وإن زادت في الآونة الأخيرة ، فهي تبقى ظاهرة غير مقلقة ، لطبيعة المجتمعات الإسلامية التي تسودها وسائل الضبط الاجتماعي والترابط الأسري والقبلي ، وخشية الوصمة الاجتماعية. وهذا ما يدفع بالبعض إلى التقليل من هذه الأمور واعتبارها نتيجة تأثر بالاهتمام العالمي بحقوق الإنسان وانتشار مفاهيم العولمة ، وأن الظاهرة ربما اتخذت بعداً سياسياً ومطلبياً مع البروز العالمي للجمعيات النسائية والناشطات في المجال الاجتماعي التي تعمل من الحبة قبة. مثل هذا الاعتقاد يحتاج إلى فحص ، سيما أنها تؤثر بشكل مباشر على الاستراتيجيات العربية للتصدي للظواهر الاجتماعية السلبية. ولعل حادثة مدينة الثورة أو مأساة الثورة كما سماها التاج عثمان جديرة بأن تدق ناقوس الخطر من أمراض سلوكية تلازم التحولات الاجتماعية عادة في أوضاع الانتقال من الريف إلى المدن وانخفاض مستوى المعيشة ومراحل القلق السياسي من جراء الحروب ، وهذه الأوضاع كلها مما ابتلانا الله بها والحمد لله على كل حال. وفي مثل هذه الأوضاع لا تكون المواجهة بتناول إعلامي عادي بل بالأداء الإعلامي الاستثنائي التي تبلغ الذروة ب (حملات الصدمة الأخلاقية) ، ولكن تلك قصة أخرى.