الاضافات التي اسبغها ابوذكرى على الشعرية السودانية، تبدأ ببرنامجه الرؤيوي في تطوير اللغة النثرية، والوصول بها الى آفاق بعيدة من الشحنات الشعرية. وفي هذا المجال فاق ابداعه مجايليه السودانيين والعرب، فقد خلا شعره من الظلال الرومانسية التي طبعت اشعار محمد المكي ابراهيم ومحمد عبد الحي والنور عثمان أبكر، والتي ظلت ولو الى حدما تصبغ اشعارهم على وجه العموم، ومن ناحيته تخطى ابوذكرى حدود الواقعية المجازية لدى صلاح عبد الصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وفوزي العنتيل أول أمرهم. كما استطاع تخطي لغة الواقعية الاشتراكية المحفورة بملامحها المحددة بشعرية ذلك الزمان، فالقصيدة عند ابي ذكرى كائن جميل لا تخرج من القاموس النثري، بل تخرج من نفسها لتضيف لذلك القاموس النثري، وكما اسلفنا، فإن اللغة البسيطة في ظاهرها، والسهل الممتنع الذي يجترحه شكلت ملمحاً جديداً ربما لا نجد سابقاً له الا لدى ادريس جماع في ديوانه «لحظات باقية» ظهر ذلك في باكورة اشعاره التي كتبها في الستينيات من القرن الماضي.. اذ يقول ابو ذكرى. لي سماء غريبة أتأملها في الخفاء وأهدهدها ساهماً في المساء واغني لها أجمل الاغنيات بصوتي الاجش الذي لا يجيد الغناء وأقول لها واتمتم آه ملاذي من القيظ والزمهرير فالتبصير هنا على بساطته انيس يقطر بالرقة، والقصيدة تعطيك نفسها في يسر وسذاجة وبأقل تفكيك بنيوي ونلاحظ المسافة الجمالية في الحقل الدلالي وفتح ثغرة في مسافة انتظار وتوقعات القاريء. إلا ان هذه السماء القريبة التي ترمز للأمل والبشرى سرعان ما تسقط في وهدة عنف اللغة لتشف عن لغة العنف والشر الكامن في العالم. ونقوم لنمسح أوجهنا في السنين التي سوف تأتي ونقاتل هذا الزمان القبيح في حشانا في خطانا ونحد براثنه القاتلة يا سمائي الدخان الدخان صار سقفاً لنبضي ونبضك حائطاً خامساً في المكان جيفة في الريح تفوح ويكمل بنبرة من التشاؤم: السموات والحب ليست هنا والهواء المعطر ليست هنا انظري كلما تمنح الارض من قلبنا تصبح الارض منفى لنا ولأشواقنا والصورة لا تتضح وتتجدد ملامحها في بيت اوسطر، بل في كلية شاملة تتدفق في اطوارها معاني الرعب والأمل الجريح والتبشير بالقيامة الآتية. وفي قصيدته (دفء هذا المساء 1971م) كان الشاعر في شبابه الأول لايزال خافقه ينبض بالأمل في المستقبل ويتطلع الى الحب كغيره من جيله. هل صحيح انه بعد الشتاء يسقط الدفء السماوات علينا مددا هذا المساء أبيضاً مؤتلقاً فوق الحديقة وسرعان ما ينطفيء الألق ويعود الشاعر الى نبرة الاسي الكوني. هل صحيح انه بعد الشبابيك التي نغلقها دون الهواء وكأن الشهب والافلاك في الموت تنام وكأن العالم المرهق زنزانته ثلج والشاعر ينتظر ازدهار الحياة في الخراب: هل صحيح انه سوف يجيء المد بالرحالة التعبى ورواد البحار هل أنا انقل انواري في الليل وأرجو الصيف والنجمات والدنيا الغريقة ها انا انتظر البعث هنا كل مساء هكذا.. كل مساء كان الشاعر كثير الاصغاء الى نفسه لا إلى ما حوله، ورغم انه نظم اشعاره تحت التأثير الساطع لاسلوب الشعر الحديث الذي كان كثيراً ما يتراجع الى الشكل المرسوم، والذي كثيراً ما اسهم في إخفاء حكمة النضج والفقر الفكري حتى ان بعض الشعراء المولعين بالمظاهر تمكنوا من جعل مواهبهم تبدو اكبر من حجمها حين تتكالب المذهبية على روح الابداع، رغم ذلك فقد استطاع ابو ذكرى القفز فوق المحنة الايديولوجية والتعبير عن أوضاع سياسية معقدة ببساطة تبدو أحياناً قاسية كالسكين المرهفة الحد.. وربما يمكن القول بأن سذاجته قد انقذت شعره من ذلك المصير القاتم. لذلك تجلت مادته الفريدة ونغمته الخاصة. والشعب عنده ليس تلك الكتلة الصماء، ولكن هو غمار الناس البسطاء الذين يبتهج لثرثرتهم المأنوسة. اضاء النور نافذتي صباح اليوم ودفق ماءه الثوري والبلور تحت الماء فلم يلمع باورقتي سوى تنهيدة الاشواق ويبصرني احدق في الشبابيك التي تصحو لا سمع ثرثرات الناس حول موائد الافطار هنيهتها احس بلذة الدنيا تغلغل في ضلوعي ثرة حلوة ومن فرحي اكاد اعانق البصات والاسفلت وننظر فنرى ان أبا ذكرى قد ادخل على الشعر الواقعي نفساً انسانياً يضاهي ابداعات ناظم حكمت وبول ايلوار وفوز نيزنسكي ورسول حمزتوف. وخارج المقهى توقف المطر توقف الحديث تجمد البراد في منتصف الطريق للاكواب وفي السكون وقعت زجاجة على البلاط فانتفض النادل ثم تسمرت عيونه. (يتبع)