ماعون أهل الرأي وصفوة النادي السياسي عندنا ضيق. الله ينعل الماعون الضيق. فما يقع في العالم من أحداث يتنزل عندهم «قميص عامر» يلبسونه مفصلاً عليهم بالضبط بالربط على مقاس متاعبهم في وقتهم المعلوم. فأحداث العالم الجلل لا تغريهم بدرسها كظواهر في حد ذاتها تستحق التحليل في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية. وقد تابعت من هنا ماعون الصفوة السياسية يضيق عن سعة مأساة إنتخابات كينيا وينكمش ليتنزل بها بقدر متاعب تلك الصفوة الراهنة مع قانون الانتخابات. فأصبح السؤال الشاغل المستفاد من مأساة كينيا هو: ما الذي سيحل بنا من دمار متى زورت حكومة المؤتمر الوطني الانتخابات القادمة. وكفى. وصار السؤال مضغة الأفواه. فقال السيد آدم مادبو، نائب رئيس حزب الأمة، إن مصير كينيا (بل أضل سبيلا) ينتظرنا إذا وقع ذلك التزوير. وسمعنا عن السيد ياسر عرمان قطب الحركة الشعبية أن «طماعي» المؤتمر الوطني سيقودوننا إلى حتف كينيا متى غشّوا في الانتخابات. وصار الصحفيون يعرضون السيناريو الكيني الدموي على أهل الرأي ليعرفوا عنهم إمكانية حدوثه متى زُوِّرت الحكومة الانتخابات القادمة. بل هناك من شقق المسألة فسأل من تحدث إليهم إن كان هذا السيناريو سينطبق على الجنوب متى ما قرر الانفصال عن الشمال. وووجدت أن هناك إجماعاً بأن «القنبلة» الكينية كامنة في السودان تنتظر أن تطير شراراً دامياً متى عبث عابث بالانتخابات. بل ساد بين أهل الرأي الاعتقاد بأن السودان هو المكان المثالي لمذابح كينيا ودمها المراق بالنظر إلى طول جراحاته واحتقاناته التي ستفتح وتسممنا عن بكرة أبينا متى مس الانتخابات سوء. وعليه يرى أهل الرأي هؤلاء أن ما حدث بكينيا سيكون برداً وسلاما قياساً بما سيقع عندنا متى غشت الإنقاذ. فأل الله ولا فألكم. فأل الله ولا فألكم. فأل الله ولا فألكم يا هؤلاء. محنة كينيا سيئة الحظ لأنها جاءتنا وصفوة السياسة قافلة على كرت الانتخابات. وربما وقعت لهم في جرح. فهي صفوة تعودت على بسط نفوذها علينا بإرهابنا بكوارث العالم. فمرة لبنان، ومرة الصومال، ومرة كوسفو، ومرة سيراليون، والتسونامي وكل ما في كتاب الفزع وقيام الساعة. وهو ما أسميه ب حيلة «ود أم بعلو»: ود أم بعلو جاكم . . . ود أم بعلو جاكم. وجرياً وراء شاغل الانتخابات تواثق أهل الرأي على أنه لن يبعد عنا شبح كينيا سوى وضع لائحة انتخابية لا تخر ماء تحرسها مفوضية للانتخابات حرة محايدة. بل ذهب البعض يدقق في المسألة لسد الثغرات التي نفذ الشر منها في كينيا. فهناك من اقترح أن نسمح بفترة للطعون بين إعلان الانتخابات وأداء الرئيس للقسم. فقد خلا القانون الكيني من هذه الفترة وانتهز كيباكي، رئيس جمهورية كينيا، فرصة نصره المزور فسارع بأداء القسم ووضع ناسه أمام الأمر الواقع. أنظر بالله كيف تحولت محنة كينيا إلى هامش على شاغل صفوتنا بالانتخابات القادمة بصورة لم تترك شاردة ولا واردة لمطلب كل منهم منها. والناظر غير الحاقن لمحنة كينيا سيجد أن انتخاباتها ليست أصل العلة. فهي لم تكن سوى النافذة التي أخرجت أثقالها من خلالها. فمعروف أن حكم كينيا منذ استقلالها ظل حكراً لصفوة شعب الكيكيو بصورة كبيرة. وهي شكوى شبيهة لشكوى شعوب سودانية مهمشة هنا من احتكار صفوة «مثلث حمدي» لحكم السودان. والفارق مع ذلك أنه بينما ظلت صفوة حمدي تتفاوض بالحسنة وبغيرها مع أهل هذا الهامش تعقد المواثيق وتنقضها ثم تعود إليها نجد من الجانب الآخر أن صفوة الكيكيو تعالت علي الاتفاق مع أهل هامشها على شيء يرضيهم. ولذا تجد من توقفوا عند مأساة كينيا من غير صفوتنا تجاوزوا الانتخابات المزيفة إلى ضرورة ابتدار إصلاح سياسي تتسع الحكومة فيه لغير صفوة الكيكيو ويرد المظالم التي ظلت تنضج (الأصح تتخثر) على نار الإهمال والتغاضي الطويلة الباردة. ويستعمل المعلقون كلمة (simmer) الإنجليزية المعبرة عما كان يجرى من غليان مكتوم لمظالم الهامش الكيني من وراء السطح الهاديء الخداع. ووجدت محرراً بجريدة النيو يورك تايمز لمس لمساً حصيفاً وميض النار هذا من تحت الرماد. فقد قال إن شكوى المهمشين من التغول على أراضيهم وغيرها شكاوى حق ولها ما يبررها إلا أنها ظلت محجوبة عن العيان. ولذا كان قتل شعب الماساي والكالنجن للكيكيو لإرهابهم بالهجرة عن الوادي المتصدع هي تصفية لخلافات قديمة معهم حول ملكية الأراض في ذلك الوادي وتعود إلى الستينيات. فقد كان على كينيا يومها جومو كينياتا فأحسن إلى بعض أهله بما لا يستحقون من أرض وجاه. وقد سبق لدانيال أروب موي، الرئيس السابق وهو من غير الكيكيو، استخدام هذه الثأرات في حملة إعادة إنتخابه في 1991 للكيد لمعارضيه من الكيكيو وغيرهم. وكانت ضحايا هذه المواحهة الأولى 1000 فقيد. وبينما خمد العنف والعنف المضاد بقي تحت الرماد وميض النار. ووفرت الانتخابات الأخيرة المثلومة للمهمشين فرصة للثأر من الكيكيو، الذين تمكنوا من الدولة في عهد كيباكي. وكانوا قد التفوا حول رائيلا أودينقا لأنه بتطبيق برنامج «الماجيمبو»، وهي الفدرالية المعروفة عندنا، سيرد الحقوق لأهلها بعد طول تسويف. ويقول محرر النيويورك تايمز إن المهمشين فهموا من الماجيمبو أن تطبيقها يعني أن يطلع كل قرد جبله بأن يخلي الكيكيو الوادي المتصدع عائدين إلى جبلهم. ولعل أفضل تعبير عن ثأرات المهمشين ما نقله محرر النيو يورك تايمز عن صبي من المهمشين في الرابعة عشر من عمره. فقد قال إنهم ظلوا يستعدون لمثل هذا اليوم مع الكيكيكو طويلاً. وبدا وكأنه يعلق على مقتل «05» إمرأة منهم لجأن إلى كنيسة بغير فائدة حين قال: «فالكيكيو هم اعداؤنا غصبوا أرضنا. ومع أنه من غير المشرف قتل نسائهم أو أطفالهم ولكن قتل الذكر منهم مأثرة وأي مأثرة؟» نبه الأستاذ محمد سعيد محمد الحسن في «الرأي العام» والأستاذ علاء الدين بشير في جريدة «الصحافة» إلى مفارقة خراب نيفاشا في ملابسات محنة كينيا. وهي المنتجع الذي تواثقنا فيه على اتفاق قومي سيخلد اسمها في تاريخنا. ولو أحسنا الظن بأنفسنا «واتراحمنا» لقلنا إن محنة كينيا ربما تمثلت في أنها لم تتواص على عهد كعهد نيفاشا الذي يسمونه «الماجيمبو». بل إن صفوة الكيكيو لم تتعلم طوال مفاوضاتنا الكأداء بين ظهرانيهم في نيفاشا أن عليهم أن يقتدوا بنا ويحسنوا التفاوض مع مهمشيهم وإلا حل بهم ما حل بهم. وهذا فهم لمحنة كينيا أذكي مما فهمته صفوتنا السياسية بحصرها لها في الانتخابات التي هي حلم الجعان عيش. فقد وصف علاء بشير كيف كان كيباكي يحنث بعهده لمهمشيه بينما يزين لنا نحن السودانيين ضرورة اقتسام الثروة والسلطة. فقد أخل كيباكي بميثاق تحالف «قوس قزح» الذي كان من زعمائه رائيلا أودينقا، غريمه في انتخابات الرئاسة. وكان جوهر هذا التحالف إجراء إصلاحات في الرئاسة والقضاء ومجلس الوزراء والنظام الانتخابي تأذن بدخول شعوب كينيا الأخرى، التي استبعدتهم قبضة صفوة الكيكو (زي المؤتمر الوطني وكده)، من دائرة التأثير في أمر وطنهم. وتفرق الحلف بعد إخلاف كيباكي ونزل أودينقا ببرنامج الماجيمبو إلى عامة الناس يؤلبهم لأخذ زمام الأمر بيدهم بعد أن استسلم كيباكي لنفوذ صفوة أهله. حتام يخيفنا أهل الرأي ب «ود أم بعلو» العالم الذي يخضعون به وقائع العالم الجلل إلى مصالحهم التي لا تتجاوز أرنبة انوفهم. إن لشعبنا خبرة أقدم في الخلاف وتسويته (بما في ذلك اقتلاع حكومات قاهرة أفسدت وئام الوطن) وقطع نحو بناء سودان آخر متناغم وحر وسعيد خطوات تتثاقل دون أخذها بشجاعة وواقعية دول كثيرة مثل كينيا. فأصل مأساة كينيا أنها لم تحصل بعد على «شهادة بحث» نيفاشا مثلنا. بل خربت نيفاشا التي آوتنا من حرب وحقنت الدم خراباً كخراب سوبا.