في مصر قضت احدى المحاكم بحبس الكاتب الصحفي ابراهيم عيسى واثنين آخرين بتهمة اهانة الرئيس محمد حسني مبارك، بعد ان رفع محاميان من مدينة الوراق ( جنوبالقاهرة ) وآخرون دعوى قضائية ضده بتهمة (سب وقذف رئيس الجمهورية وبث دعايات مثيرة من شأنها تكدير «الأمن العام»). وتعود وقائع القضية التي حدثت في العام 2006 الى قيام صحيفة «الدستور» التي يرأسها عيسى بنشر خبر صحفي بعنوان «مواطن من منطقة وراق العرب التابعة لمحافظة الجيزة, يطالب بمحاكمة مبارك واسرته ورد (005) مليار جنيه قيمة القطاع العام والمعونات الخارجية» وهو الخبر المحرر بواسطة الصحفية سحر زكي وكان مصدره المتهم الثالث الذي كان قد رفع قضية في محكمة القضاء الاداري وطالب فيها بمحاكمة «مبارك». وقال قاضي المحكمة قبل النطق بالحكم إن «ما نشر هو مما آلت اليه القيم والاخلاق واندثارها بين بعض الأقلام الصحفية التي ارتبطت بنشر كل ما هو هدام لمجتمع يخطو نحو الحرية بخطى ثابتة في ظل مناخ ديمقراطي»..اما رئيس التحرير المتهم فقد قال: «ان الحكم استخدم لأول مرة منذ قيام الجمهورية مادة في القانون حول «اهانة الرئيس» وهذه سابقة في رأيي خطيرة جدا». كانت محصلة الحادثة الشهيرة في مصر والعالم العربي التي تعلقت بأفعال النشر ان الطرفين احتكما الى القانون لفض حالة اشتباك او اشتباه، ولكن في السودان يبدو أن هنالك كرتين في الملعب،الاولى هي ميثاق الشرف الصحفي وقانون الصحافة والقانون الجنائي والقوانين ذات الصلة بمترتبات النشر، وهذه هي التي يعتمدها الوسط الصحفي ويراعيها في ادائه المهني، والثانية هي قانون الامن الوطني وهو الذي يعنى في المقام الاول بمنسوبي جهاز الامن والمخابرات الوطني..احيانا ربما يتم استبعاد الكرتين من الملعب، ويلجأ الطرفان (الصحافة والحكومة) الى تجنيب القانون والتراضي على اتفاق او ميثاق غير مكتوب، يتم بموجبه وقف الرقابة القبلية وتلتزم الصحافة بما التزمت به في الاتفاق..ولكن حتى الاتفاق غير المكتوب سريعا ما يجد مصير ذلك الذي كتب بالحبر ومهر بالتواقيع ومر بمراحل الاجازة كافة. المقريزي والانترنت ورغم المواثيق التي أُبرمت من أجل انهاء الرقابة القبلية إلا أنها مازالت من المهددات اليومية للمادة الصحفية، وأصبحت الصحف تعتمد على الانترنت في ملء الفراغ الذي تحدثه الايادي التي تمتد الى المادة الصحفية المحلية، ولكن مواد الانترنت نفسها في حالة غفلة وعدم إنتباه أو حسن نية فيها ربما تتحول الى فخاخ وشراك قد تؤدي بناشرها إلى المحاكم كما حدث للراحل محمد طه محمد احمد في قضية المقريزي الشهيرة. ومع ان محيي الدين تيتاوي رئيس اتحاد الصحافيين قال ضاحكا: إن الرقابة القبلية مفيدة لرؤساء التحرير لأنها تقيهم شر المحاكم، إلا أنه سريعا ما استعاد نبرة صوت جادة ليقول انه لا يرى مبررا لعودة الرقابة القبلية في ظل قانون يحتكم له الناس، واضاف: اتحاد الصحافيين مع الحرية المسؤولة حتى لا تتعرض حرية الصحافة الى تشوهات..تيتاوي تحدث أيضا عن الاتفاق المشهور بين رؤساء التحرير والمسؤولين الحكوميين صدر بعده قرارٌ بمنع الرقابة ما التزم الصحافيون بميثاق الشرف الصحفي. لكن يبدو أن ميثاق الشرف الصحفي وقانون الصحافة لا يسري مفعوله في غير بلاط صاحبة الجلالة، فمدير ادارة الصحافة بجهاز الامن والمخابرات يقول انه يحتكم في عمله الى قانون الامن الوطني.وكإجراء وقائي ربما، فإن مدير ادارة الصحافة بجهاز الأمن يرى أن هناك دواعي آنية واجراءات استثنائية نتيجة لظهور حالات من التفلت والكذب الضار خاصة بعد العدوان التشادي وفي الملفات المتعلقة بالهجين ودارفور وعموم القضايا الخارجية، وينبه الى ان النقد في القضايا الداخلية لم يتوقف يوما، وطالب الصحافة بأن تكون اكثر وعيا لآثار الكلمة خصوصا فيما يتعلق بالقضايا الوطنية الإستراتيجية واسرار القوات النظامية. أزمات وتظهر الازمات التي تمر بها البلاد تسرعا في اللجوء الى التدابير الإستثنائية بحق الصحف، مثل الظروف التي أعقبت إغتيال محمد طه محمد احمد والمظاهرات التي لازمت قرارات رفع أسعار الوقود وسلع أخرى بجانب التهديدات الامريكية البريطانية بسبب الأوضاع في دارفور، لكن الاستاذ النور أحمد النور رئىس تحرير صحيفة «الصحافة» قال إن الرقابة حجبت من صحيفته عدداً من المواد المتعلقة بالشأن الداخلي.. مثل ارتفاع أسعار الدقيق والخبز بل ومقالاً عن الفنانة ندى القلعة، وأخباراً عن المحكمة الجنائىة وكلها مواد لا تهدد الأمن القومي. ومع رفضه القاطع للرقابة القبلية، تمنى د.الباقر احمد عبدالله رئيس مجلس ادارة صحيفة «الخرطوم» ألا تجهض الدولة الشوط الطويل الذي قطعته الصحافة بعد عذابات ومرارات من اجل حرية الكلمة والنشر. ومع ان مجلس الصحافة من ضمن المؤسسات المعنية بترقية أداء المهنة وتطويرها، الا ان البروفيسور علي شمو رئيس المجلس قال ل «الرأي العام» ان قانون الصحافة لا يشمل قاموسه كلمة «رقابة» ودواعي الرقابة اجابتها عند جهات اخرى وليس عند المجلس»..اما الجهات الاخرى التي قصدها شمو «إدارة الصحافة بجهاز الامن» فتقول ان أي اجراءات استثنائية تتم بحق الصحافة فإن السبب الرئيسي فيها الخروج عن ميثاق الشرف الصحفي، وهذا سببه كما يشير مدير الإدارة الى قلة المؤسسات الناضجة صاحبة السيطرة المهنية والادارية «فهناك مؤسسات صحفية تفتقر إلى المؤسسية والدور التدريبي والتأهيلي ف «70%» من الاخطاء التي تحدث غير متعمدة وانما تعود لضعف المؤسسات التي لو تم تأهيلها لتفادينا ما يحدث». والى جانب ان الرقابة القبلية غير شرعية وتتنافى مع الدستور كما وصفها بذلك النور أحمد النور، لكنه أشار الى أن المفارقة فيها أنها تتم بصورة انتقائية وغير عادلة إذ أن هناك أخباراً تحجب عن صحف وترد في اخرى، مما يشي بأن هناك صحفاً مصنفة كصديقة للسلطة، ليس عليها رقابة. أو ربما رقابة شكلية.. ويرى النور ان الرقابة أصبحت سيفاً تم تسليطه على رقاب الصحافيين مما يؤدي الى انكماشهم ويقلل من الحريات والتعبير، وقال عادل الباز رئىس تحرير صحيفة «الأحداث» إنهم كصحافيين ليسوا «قُصّر» حتى توجههم الجهات الأمنية ورغم إقراره بوجود تفلتات إلا أنه يرى أنها لا تُعالج بالقبضة الأمنية، ومهما كانت الاستثناءات فإنه لا يجد أي مبرر أو شرعية قانونية للرقابة، وطالما أن هناك قانوناً فإنه يفضل الوقوف أمام القانون على الوصاية الليلية. ومع رفضه للرقابة القبلية كسائر رؤساء تحرير الصحف، أعلن الاستاذ سيف الدين البشير رئيس تحرير صحيفة «سودان فيشن» وهي واحدة من «54» صحيفة ومجلة تصدر في السودان اعلن رفضه التام لأية رقابة قبلية لكنه قال إن مصطلح»المصالح القومية العليا» أمر متعارف عليه في كل دول العالم وهو سقف استراتيجي ينبغي التواضع عليه. ويبدو أن أزمة الصحافة والسلطة في طريقها الى دائرة الضوء مجدداً فقد تم تشكيل لجنة سداسية برئاسة الاستاذ محجوب محمد صالح رئىس تحرير صحيفة «الأيام» للوقوف على مهددات العلاقة بين الصحافة والسلطة، ومن ثم وضع ميثاق جديد يتواضع عليه الطرفان من شأنه تحديد العلاقة وإىقاف الرقابة، وعلى ضوء العلاقة غير المستقرة بين الصحافة والسلطة يبدو أن مقولة القيصر نيقولا «جميل أنت أيها القلم ولكنك أقبح من الشيطان في مملكتي» ستكون سائدة إلى حين إستقرار هذه العلاقة.